سجنٌ مفتاحه بيديك
لو سألنا الناس -جيل الشباب تحديدًا- عن آخر ما يفعلونه قبل النوم، وأوّل شيءٍ يفعلونه عند الاستيقاظ، لكان جواب معظمهم: "تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي". ولو سألتهم عن أوّل اهتماماتهم إذا دخلوا مطعمًا أو منزل قريبٍ أو صديقٍ، فالإجابة الحت ميّة هي: "كلمة سر الانترنت".
نعم صدّق ، لقد صارت حياتنا مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالهاتف والانترنت. لا ننكر أنّ للأمر الكثير من الإيجابيّات -إن استثمرت بالشكل الصحيح- لكن، في الوقت عينه، برزت لهذه الظاهرة آ ثارٌ سلبيّةٌ غلبت على منافعها خصوصًا فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة للفرد نفسه.
نقف هنيهةً لنسأل أنفسنا: "هل يستطيع أيٌّ منّا أن يستغني عن الهاتف يومًا واحدًا؟ هل يمكن ألّا يتفقّد بريده الإلكترونيّ أو ما يصله من رسائل لفترةٍ محدّدةٍ؟ هل يستطيع تناول وجبة طعامه دون أن تسبقه الكاميرا إليها؟ هل يقدر على عدم مشاركة تفاصيل حياته اليوميّة مع القاصي والداني؟ وهل يستطيع بدوره أن لا يحشر أنفه في حياة الآخرين؟ للأسف، صار من الصعب جدًّا أن يكون الجواب "نعم نستطيع"!
وإن أردنا أن نلمّح إلى السلبيّات -إذ تحتاج كلٌّ منها إلى صفحاتٍ لتبيان مخاطرها- لا بدّ أن نبدأ بالمشاعر والأحاسيس والشخصيّات. ف ي هذا العالم الافتراضيّ الأزرق، صار المرء يكتفي بـ"إيموجي" للتعبير عمّا يشعر به، فقد يهنّيء أو يعزّي بـ" رياكت" أو رسالةٍ بسيطةٍ، في حين كان الناس للناس وكان "فرحي فرحك وحزني حزنك"، وقد تتفاجأ بشابٍّ التقيته بالأمس، فتلعثم بإلقاء التحيّة والسلام، وارتبك بالجلوس والقيام، وهو اليوم طليق اللسان، يغرّد بين الأنام، في سماء عالمٍ أزرقٍ، ربّما لأنّ المواجهة من خلف الشاشة أبسط بكثيرٍ، فهو لا يحتاج أن يكشف هويّته الكاملة، هو ما يحبّ أن يُظهره لك من جوانب شخصيّته. وقد تجد في هذا العالم تلك المطلّقة المهمَلة ت دور بين الشابّات، تحذّرهنّ من الوحش(الرجل) الذي يدخل حياتهنّ فيسلبها اطمئنانها وأمانها، وتلك الأمّ التي أهملت تربية ف لذات أكبادها على حساب التفرّغ لتقدي م أفضل أسلوبٍ تربويٍّ ممكن للأمّ أن تتّبعه ليصير العالم أفضل. قد يحكمهم المجتمع بقواعد المسموح والممنوع، ويفرض عليهم بعض القيود، وقد يحاكمهم بنظرته الناقدة لكلّ ما يخالف قواعد المقبول ، ب ينما يتيح لهم العالم الافتراضيّ أن يكونوا على سجيّتهم، و يقدّم لهم ما يشتهون، وبأيّ وجهٍ أحبّوا، اليوم يتقنّعون، وكلّ ذلك دون أدنى درجات الرقابة الأخلاقيّة.
لقد ضعفت العلاقات الاجتماعيّة، بل انعدمت، والروابط الأسريّة تفكّكت، وإدمان الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعيّ بكلّ أشكالها انتشرت، فبات عيش العالم الواقعيّ أمرًا لا يُطاق. بالأمس، كان الهاتف حلًّا لتحقيق التواصل الدائم مع الأقارب والمعارف، أمّا اليوم، فقد بات محور كلّ جَمعة، وسببًا للتشتّت والتفكّك الأُسريّ، إذ تكاد تخلو مجال س الأصدقاء والأقارب من الألفة والدفء، والاستفادة من الوقت بما يوطدّ العلاقات ويقوّي الروابط، بات الجميع سجين الهاتف، طفلًا كان أو مراهقًا، شابًّا أو مُسنًّا، غنيًّا أو فقيرًا، متعلّمًا أو جاهلًا، بغضّ النظر عن أهداف كلٍّ منهم وغاياته، وباتوا يتسابقون من أجل تملّك الجهاز الأجدد ذي المواصفات الفريد ة والجديدة، ويتفاخرون بامتلاكه.
سطت الهواتف على المجتمع، وتفاقمت هذه الأزمة في الآونة الأخيرة، مع غفلة الكثيرين -من جيل الشباب تحديدًا- عن أنّ لكلّ عملةٍ وجهان، وجهٌ سلبيٌّ مظلمٌ، وآخر إيجابيٌّ يشرق بهم على عالمٍ من التعلّم والاستثمار، عالم استقطاب النخب وترويج الأفكار وبثّ الوعي والنضج. تتيح ه ذه ال منصّات للأفراد بناء شبكاتٍ اجتماعيّةٍ ضخمةٍ، وتساعد على تقوية العلاقات الشخصيّة والمهنيّة، كما توفّر فرصًا للأعمال الصغيرة والمشاريع الرياديّة، حيث ييمكن لأصحاب الأعمال الترويج لمنتجاتهم وخدماتهم بسهولةٍ، والوصول إلى جمهورٍ واسعٍ بدون تكاليف باهظةٍ.
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: كيف تدير مفتاح السجن بيديك؟
في ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ وسائل التواصل الاجتماعي تحمل في طيّاتها إمكاناتٍ هائلةً، لكنّها تحمل أيضًا مخاطر لا يستهان بها. التحدّي الأكبر يكمن في كيفيّة إدارة هذه الوسائل بشكلٍ يحافظ على الفوائد مع تقليل الأ ضرار.
أوّلًا، يجب أن يكون لديك وعيٌ كاملٌ بالوقت الذي تقضيه على هذه المنصّات. ي مكن الاستفادة من أدوات إدارة الوقت التي توفّرها الأجهزة الذكيّة نفسها، وذلك لتتبّع وقت الاستخدام وتحديد ساعاتٍ معيّنةٍ للاستخدام اليوميّ. كما أنّ تخصيص أوقاتٍ محدّدةٍ للتفاعل الاجتماعيّ الحقيقيّ، بعيدًا عن الشاشات، يُعدّ خطوةً مهمّةً للحفاظ على التوازن بين الحياة الافتراضيّة والحياة الواقعيّة.
ثانيًا، يجب التعامل بحذرٍ مع المحتوى الذي تتعرّض له. لا تتردّد في التحقّق من صحّة المعلومات قبل مشاركتها، واعلم أنّ ما تراه على الإنترنت قد لا يعكس دائمًا الحقيقة. من الضروريّ أن تكون ناقدًا لما تتلقّاه من محتوًى، وألّا تقع فريسةً للمقارنات غير الواقعيّة التي تروّج لها بعض الحسابات.
أخيرًا، يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداةٍ إيجابيّةٍ لنشر الوعي والمعرفة والمساهمة في تحسين المجتمع. بدلًا من الاكتفاء بالاستهلاك السلبيّ للمحتوى، يمكن للأفراد أن يصبحوا منتجين للمحتوى الهادف الذي يسهم في التغيير الإيجابيّ.
في النهاية، تظل وسائل التواصل الاجتماعي سجنًا افتراضيًا مفتاحه بيديك. بإمكانك اختيار كيفيّة استخدام هذا المفتاح: هل ستسمح لهذه الوسائل بأن تقيّدك وتسيطر على حياتك؟ أم أنّك ستستخدمها بحكمةٍ لتفتح أمامك أبوابًا جديدةً من الفرص والتواصل؟ القرار يعود إليك، وكلّ ما تحتاجه في رحلتك هو الوعي والإرادة لتحقيق التوازن بين الاستفادة من مزايا هذه الوسائل وتجنّب أضرارها.
والحمد لله رب العالمين
زينب عبّاس علّول
دورة كتابة مقال
_____________
الكتاب: شبكات التواصل الاجتماعي
الناشر: جمعية المعارف الإسلامية
تاريخ الإصدار: 2016_2
النسخة:2016
الكتاب: مركز المعارف للدراسات الثقافيّة
دليل الأسرة المجاهدة النشرة الشهرية الصادرة عن حزب الله الموجهة إلى كل أفراد الأسرة المجاهدة تاريخ الإصدار: 2023
مدقق هدى جوني
20-8-2024