التعايش السلمي
المسألة الأخرى هي مسألة التعايش السلمي مع الآخرين الذي جاء في صلب تعاليم الصلاة، فنحن نخاطب الله في سورة الحمد الواجبة قراءتها في الصلاة بقولنا:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ بصيغة الجمع لا المفرد، فالكلام على الجمع لا المفرد، مع أنه من وجهة نظر روح العبادة كلما لم يكن هناك في ذهن الإنسان غير الله كان أحسن إلا أن الإسلام من أجل مصلحة اجتماعية مهمة جداً ولأجل أن يجعل من روح المسلم روحاً اجتماعية أمر بأن نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾ هنا يشاهد التعاون والمسالمة والتآخي العام بشكل ملحوظ. والأكثر من ذلك مسألة السلام المطروحة في تسليم الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن هذا إعلان لطلب المسألة، ولكن ليس مع كل البشر حتى أولئك الذين ينبغي استئصال جذورهم لصالح البشرية، بل مع عباد الله الصالحين.
النية
مسألة النية أيضاً من المسائل التي أوليت اهتماماً كبيراً، فمن مسلمات الفقه الإسلامي كون النية روح العبادة، قال الرسول الأكرم (صتى الله عليه واله وسلم): "لا عمل إلا بنية"5 أو: "لكل امرئ ما نوى"6 ، ان العمل الذي يحدث من غير قصد لا يكون ذا قيمة، فالعمل الذي يقدم عليه الإنسان على نوعين: أحياناً يقدم الإنسان على الفعل وكأنه ماكنة لا إنسان (كأغلب الصلاة التي نؤديها) وأحيانا نقدم على الفعل ونحن ملتفتون إليه، وعندما يقدم الإنسان على فعل عن توجه منه والتفات فقد حدد هدفاً ومقصوداً في ذهنه وهو ملتفت إلى ما يفعله، حتى أن السيد البروجردي في باب النية لم ير كفاية وجود الداعي لدى الإنسان، وكنا في البداية نتعجب من أن يكون للسيد البروجردي رأي كهذا، إذ إن أغلب العلماء يكتفون بالداعي فقط، وأن يحدث في نفس الإنسان قصد للقربة، بحيث لو سألناه ماذا تصنع؟ يجيب: أصلي لله سبحانه، ولو كانت الغفلة أكثر من هذا المقدار وعمله الآلي وصل إلى درجة بحيث إذا سألناه ماذا تصنع، فإنه يمعن النظر أولاً ثم يجيب، فإن صلاته تكون باطلة بإجماع العلماء، إلا أن المرحوم السيد البروجردي كان يقول شيئاً آخر أيضاً وهو أنه لا يكفي هذا المقدار من الالتفات من قبل الشخص هو أن ما يقدم عليه هو بداعي قصد القربة، بل لابد من أن يخطر في قلبه هذا المعنى وكأنه يتكلم مع نفسه: أصلي أربع ركعات صلاة الظهر أداء قربة إلى الله، وعندها يقول: الله أكبر، طبعاً لا تأثير في لحاظ الباعث، فإن الباعث في محله، ولكن الفعل عندما يكون بهذه الحال فإن العمل يكون أقرب إلى حال الالتفات منه إلى حال الغفلة، أي أن الإنسان يقدم على فعله بوعي أكثر.
أركان النية
إن الإسلام لا يرتضي أي عمل عبادي لا تدخل فيه النية، وان النية في الإسلام تحوي ركنين، الأول أن العمل ينبغي أن يكون صادراً عن التفات لا عن عادة، من قبيل الكثير من الأعمال التي يقدم عليها الإنسان بلا التفات منه كالمشي مثلاً، فإذن أول ركن للنية هو أن يركز ذهنه بشكل يكون العمل صادراً عن التفات لا عن غفلة، وان ما يشترطونه من استدامة النية لأجل هذا الشيء، فلا يكفي الالتفات الذي حصل في بداية الصلاة، يعني لو أن الشخص غفل عن عمله بشكل يحتاج معه إلى تنبيهه إلى ما يصنع، فإن صلاته تكون باطلة أيضاً.
الركن الثاني للنية: الإخلاص، وما هو الباعث على العمل، وعلى هذا تكون أركان النية بهذا النحو.
1 ـ ماذا أفعل؟ وهو أصل النية التي يجب كونها لأجل التقرب إلى الله ورضاه. لماذا أفعل هذا العمل؟
أهمية النية
إن للنية أهمية بحيث لو أعملنا مقايسة بين العمل نفسه وبين النية التي هي توأم العمل، لرجح جانب النية على العمل، وهذا مفهوم حديث الرسول الذي يقول: "نية المؤمن خير من عمله"، هل يعني أن النية بلا عمل خير من العمل بلا نية؟ فإن العمل بلا نية لا قيمة له، وكذلك النية بلا عمل فإذن ماذا يعني هذا الحديث؟ هل المراد أن نية المؤمن خير من عمله الصادر عن نية؟ بديهي أن هذا ليس صحيحاً أيضاً، فإن النية وحدها لا يمكن أن تكون أفضل من العمل الصادر عن نية كما في قولنا: إن الروح أشرف من الجسد، فليس المراد أن الروح اشرف من الجسد الذي فيه روح، إذ إنه يمتلك الروح مع شيء زائد عليها، الجواب أنه كلا، بل المراد أن هذا الموجود المركب من الروح والجسد يكون جزؤه هذا أشرف من جزئه الآخر. إن هذا يصور مدى اهتمام الإسلام بالنية، وان العمل ينبغي أن يكون توأم النية والإلتفات، وأن يعي الإنسان ما يفعله ولا يمارس أفعاله غافلاً عنها.
خاصية العادة
يرى علماء النفس: أن الشيء ما أن يصبح عادة للإنسان حتى تكون فيه خاصيتان متضادتان، وكلما زاد في اعتياده يغدو عمل الإنسان أسهل، فإن من يعتاد على الكتابة على الآلة الطابعة، كلما مارسها أكثر يكون العمل لديه أسرع وأسهل، ولكن كلما كثر اعتياده يقل التفاته، أي يخرج عمله هذا عن كونه إرادياً ويقرب أكثر نحو العمل غير الإرادي، هذه خاصية العادة، وان السبب وراء اهتمام الإسلام بالنية إلى هذه الدرجة هو الحد من صيرورة العبادة عادة وعملاً غير إرادي ولا هادف.
كرامة النفس في القرآن والحديث
إن هذا الموضوع( كرامة وعزة النفس) لم يعتنَ به كثيراً أو أهمل كلياً في حين إننا نستنبط منه قواعد الأخلاق الإسلامية، وهو أحد طرق تعريف الإنسان بنفسه وتذكيره بكرامته الذاتية، فيجب أولاً أن نرى هل توجد في التعاليم الإسلامية عبارات تشير إلى عظمة وأهمية النفس أو تعرف الإنسان بنفسه أم لا؟ وان وجدت، فهل هناك تعارض بينها وبين التعاليم الإسلامية التي تنكر النفس أحياناً؟
عزَّة النفس
يعبر في كثير من التعاليم الإسلامية عن حالة الغرور أو الإحساس بالرفعة والشرف بـ"عزة النفس"، وفي مقدمة هذه التعابير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾ .، ان على المؤمن أن يعلم بأن العزة تنحصر به، وأنه هو الذي يجب أن يكون عزيزاً، وهذا طريق للتعريف بالنفس والتوجه إليها.
وفي الحديث النبوي: "اطلبوا الحوائج بعزّة الأنفس"13 أي لا تذلوا ولا تحقروا أنفسكم أمام الآخرين لطلب حاجتكم، احفظوا عزتكم ولا تقضوا حوائجكم بثمن ذلتكم وذهاب عزتكم. في نهج البلاغة يقول الإمام (عليه السلام) لأصحابه: "فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"14 يتبين هنا أن للعزة والسيادة والقهر قدراً وقيمة عظمى بحيث لا يمكن أن يتخلى عنها في الحياة، فإن تحققت العزة فلا يهم أن يتحرك جسم الإنسان على هذه الأرض أم لا، وان لم تكن فالحركة والحياة على وجه الأرض موت.
كان شعار سيد الشهداء المعروف في يوم عاشوراء هو: "الموت أولى من ركوب العار"15 ، أي انني أريد العزة فقط، وعبارته الأخرى: "هيهات منا الذلة"16، هي شعار آخر مضافاً إلى شعارات أخرى رفعت في يوم عاشوراء، وقد تلألأت هذه الشعارات في تاريخ عاشوراء، "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"17 ، ومن الكلمات التي ذكرت له (عليه السلام): "موت في عزّ خير من حياة في ذل"18 .
وهناك تعبير آخر قريب من المعنى الذي ذكرناه يروى أيضاً عنه (عليه السلام): "الصدق عز والكذب عجز"19، لذلك يجب أن يكون الإنسان صادقاً، لأن الصدق عز للإنسان "وهنا اعتبرت العزة مبنى الصدق" فالذي يكذب هو الضعيف والعاجز، أما القوي فإنه لا يكذب.
الكلمة الثانية من الحكم في نهج البلاغة: "ازرى بنفسه من استشعر الطمع"، أي احتقر نفسه من جعل الطمع شعاراً له، الطمع يذل الإنسان، ومبنى هذا الخلق السيئ هو حقارة النفس "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، يكره شرعاً أن يظهر الإنسان ابتلاءاته للآخرين، لأن هذا الأمر يحقر الإنسان ويذله.
جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وشكاه دهره وانني كذا وكذا، حيران وعليّ دين، فاعطاه الإمام مقداراً من المال، قال الرجل: لم يكن قصدي أن آخذ شيئاً، لقد أردت أن أشرح لكم حالي لتدعوا لي عند الله، فقال الإمام (عليه السلام): إنني لم أقل كان قصدك هذا ولكن خذ هذا وانفقه على نفسك، "ولا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم"20. جملة: "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، وجملة: "وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه"، لها معنى عظيم. وهناك كلمة أخرى في نهج البلاغة هي: "المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل"21 ، لماذا يمد الإنسان يده للآخرين؟ أقنع بالقليل ولا أستجدي الآخرين.
ينقل سعدي في كتابه "بوستان" أنه مرّ الإمام علي (عليه السلام) بقصاب، فقال القصاب: عندي لحم جيد، قال الإمام (عليه السلام): ليس لي مال لأشتري الآن، فقال القصاب: سوف أنتظر، قال الإمام (عليه السلام): أقول لبطني أن تصبر وتنتظر.
وهناك حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في "تحف العقول" بشأن المعاشرة أيضاً يقول (عليه السلام): "ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك"، وهذا عكس ما ذكرناه سابقاً عن أبن أبي الحديد الذي ينقل عن أحد مشاهير المتصوفة، أنه فرح في ثلاثة مواضع، منها: أننا كنا في السفينة وكانوا يبحثون عن أحمق يسخرون منه ووجدني أنا، لأنني شعرت بأنه لا يوجد أحد أقل منزلة مني في أعينهم، ففرحت كثيراً، هذا خلاف لما يريده الإسلام، ان الاحساس بالتواضع في داخل النفس، شيء غير إظهار الإنسان نفسه حقيراً أو ان يحقر نفسه أمام الآخرين، ينقل في "الوسائل"22 ، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول دائماً: "ليجتمع في قلبك الإفتقار إلى الناس والاستغناء عنهم" لكن هذا الإجتماع ليس في شيء واحد، بل هو بالإضافة إلى شيئين، والإمام يوضح ذلك بقوله: فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك، هنا يجب الاستغناء عن الناس إذا كانت مسألة عرضك وشرفك في البين ولو رأيت انك لو كنت ليناً فقدت عزتك وشرفك وجب عليك أن لا تتعامل مع الآخرين بلين. هناك بعض العبارات تحت عنوان "العلو" كتعبير القرآن: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ 23، يطرح هنا مسألة العلو ويدعو إليها.
والتعبير الآخر هو "القوة" وهو إحدى طرق العودة إلى النفس ولكن بطريقة شعور القدرة في النفس، قدمنا حديثاً للإمام الحسين (عليه السلام) وهو: "الصدق عز والكذب عجز"، القوي لا يكذب أبداً، انه يقول: إن على الإنسان أن ينمي في نفسه الشعور بالقوة والعظمة وان الكذب والغيبة وأمثالها من الضعف والعجز، كما يقول الحديث حول الغيبة: "الغيبة جهد العاجز"24 ، فالإنسان القوي لا يسمح لنفسه أن يتحدث على الآخرين في غيابهم.
وجاء في حديث آخر: "ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف"25 ، أي ان على الإنسان أن يبحث عن رزقه بنفسه. تقوم مسألة البحث عن الرزق والمعيشة من الناحية الأخلاقية على أساس القوة واعتبر اهمال العمل، والكسل من الضعف والعجز.
(يتبع)
برامج
1526قراءة
2015-11-09 19:40:47