عظمة النفس
وهذا التعبير يعني أن روح الإنسان شيء نفيس وثمين، وأن الأخلاق الحسنة والفاضلة أمور تناسب هذا الشيء النفيس، والأخلاق الرذيلة تنافيه، وعدم التناسب هذا يحط من قيمتها، هذا التعبير يعطي للإنسان ثروة نفيسة جداً ألا وهي نفسه ويقول له: يجب أن لا تضيع هذه النفس ولا تلوثها لأنها ثمينة ونفيسة.
ان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب الإمام الحسن (عليه السلام) في رسالة له في نهج البلاغة: "أكرم نفسك عن كل دنية، فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً"، فيجب عدم تضييع هذا الشيء الثمين، الذي يفوق كل ثمن وقيمة، إن الأشياء التي يتعلق بها استقلال الدولة وشرفها تعد فوق كل القيم بالنسبة للأمة، ليس هناك شعب وان كاد يموت من الفقر مستعد لكي يساوم على قيمه أو تراثه، كبعض الآثار العلمية والأدبية وحتى الذوقية الفنية.
ولأمير المؤمنين كلام آخر يقول فيه: "لا دين لمن لا مروءة له"26 ، (وفي الحقيقة ان الدين هو المروءة)، "ولا مروءة لمن لا عقل له، وان أعظم الناس قدراً من لا يرى الدنيا لنفسه خطراً"27 ، ما هي هذه النفس لتكون الدنيا بأكملها رخيصة في نظره وقدره، بحيث لو أعطي الدنيا كلها قبال نفسه فسيرى أن نفسه أفضل من الدنيا وما فيها.
هناك قول للإمام الصادق (عليه السلام) في شعر رباعي وجدته في المجلد الثاني عشر من البحار، الشعر هو للإمام (عليه السلام) حفظت البيت الأول منه: أثار من بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن28.
الغيرة
التعبير الآخر هو "الغيرة" إن بعض الأمور الأخلاقية تكون بمقتضى الغيرة أو عدم اقتضائها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "قدر الرجل على قدر همته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته"29 ، فبقدر شعور الإنسان بالغيرة على شرفه وعرضه فإنه يحترم شرف الآخرين وعرضهم وكرامتهم، أي أن غيرته لا تسمح له بالتعدي على عرض الآخرين، لذا يقول (عليه السلام) في تعبير آخر: "ما زنى غيور قط"30 ، أي أن كل من يزني ويهدم عفة الآخرين لا غيرة له أبداً.
والتعبير الآخر في هذا المجال هو كلمة "الحرية" يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". وهناك تعابير حول "كرامة النفس" مثل: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته"31 ، ويقول الإمام الهادي (عليه السلام): "من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره"32.
هل يوجد تناقض؟
كل هذه التعابير حول شعور الإنسان بقيمة نفسه، ومن جهة أخرى نجد في الإسلام تعاليم أخرى أشهر من هذه، وقد تعد منافية لها، فمثلاً عندما نقول: عزّة النفس، إذاً ما نصنع بالتواضع؟ هل التواضع شيء غير التذلل؟ فلو أردنا أن نحفظ عزة النفس إذاً علينا أن لا نتواضع! فهل عزة النفس ضد التواضع أم لا؟ وكذلك علو النفس، فالقرآن الكريم من جانب يقول: (وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، وفي مكان آخر يذم علو النفس فيقول: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾33.
كل ما سمعناه لحد الآن كان حول الضعف، يقول سعدي: انا تلك النملة التي تسحق بالأقدام، لا نحلة يصرخ من لدغها... فكيف اُأدي شكر هذه النعمة وهي أنني لا أملك طاقة إيذاء الآخرين.
وأما بشأن النفس النفيسة، فيقال: أليست النفس هي ذلك الشيء الشرير والخبيث التي تشبه بالكلب وكل الأشياء الشريرة؟ إذاً كيف تُعرف هنا بالشيء النفيس والثمين؟ وهكذا العبارات الأخرى من قبيل الحرية، الكرامة وغيرها، ألم يوص الإسلام بجهاد النفس؟ فكيف يجب هنا احترام النفس التي تجب مجاهدتها والنظر إليها كالعدو كما قال الرسول الأكرم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"34، ونجد أن "العجب" مذموم. أليس العجب هو غير عظمة النفس في عين صاحبها؟ وهكذا التكبر، كيف تتناسب هذه التعابير مع ما قيل من قبل؟ هل هناك تناقض أم لا؟
لا يوجد تناقض، لأن للإنسان نفسين، فنفس لو نظر إليها الإنسان لكان ذلك عجباً، وان نظر إليها باكبار كان تكبراً، ولو أرادها هي وحدها كان ذلك غروراً مذموماً، فهذه هي التي تجب مجاهدتها والنظر إليها بوصفها عدواً تجب محاربة أهوائه، أما النفس الأخرى فهي التي يجب تعزيزها وتكريمها واحترامها وحفظ حريتها وقدرتها وقوتها وعدم تلويثها بالضعف، ولكن كيف نوضح هاتين النفسين؟ إن للإنسان "نفسين" وذاتين، فهل معنى ذلك أن له "أنانيتين"؟ لاشك أن لكل شخص "أنا" واحدة لا اثنين، ووصف الإنسان بتعدد الشخصية غير مقبول، هناك مرض يعرف في علم النفس "بازدواج الشخصية" ولكن ذلك المرض في الحقيقة ليس شخصين قد يقال للشخص غير المتعادل وغير المتوازن أنه مصاب بمرض تعدد الشخصية لكنه في الحقيقة لا يملك شخصيات متعددة، ليس للإنسان نفسان في الحقيقة، بل إن للإنسان نفسين، بمعنى أنه يمتلك نفساً حقيقية وواقعية وأخرى مجازية وتسمى لا نفس، ومحاربة النفس في الحقيقة هي محاربة النفس مع اللانفس، إننا نملك نفساً بعنوان نفس شخصية وفردية، فعندما أقول "أنا" سوف أضع نفسي في مقابل "أنانية" الآخرين، أو في الحقيقة أنفي الأنانيات الأخرى: أنا، لا أنتم، فارادة شيء لهذه النفس تعني لهذا الشخص في مقابل بقية الأفراد وأحياناً ضدهم، كلما أصبحت النفس شخصية وفردية ومنفصلة عن بقية الأنفس فهذه الحالة مرتبطة بالأنفس أي مرتبطة بجوانبه البدنية، ولكن للإنسان في باطنه وذاته نفسه حقيقة تعتبر أصل ذاته وهذه الأخرى التي يتصورها "نفساً" هي في الحقيقة "لا نفس"، وهذه هي التي يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾35. وهذه حقيقة ليست من جنس المادة والطبيعة، بل من جنس الملكوت والقدرة، من جنس عالم آخر، فالتوجه لهذه النفس يعني معرفة حقيقة إنسانيته، عندما يتوجه لها الإنسان يراها الحقيقة المحضة، لأن جوهرها هو جوهر الحقيقة وأنها مخالفة للباطل وكل ما هو عدم، إنها تلائم الصدق، لأن الصدق حقيقة، ولأن الكذب عدم ولا حقيقة وبلا معنى وفائدة فهو غير ملائم لها، وهي من سنخ القدرة والملكوت، ولذا فهي لا توافق العجز والضعف، وهي من سنخ العلم فلا توافق الجهل، هي من سنخ النور، فلا توافق الظلام، هي من سنخ الحرية، لأن "أنا" الإنسان الحقيقية حرة وبما أنها من جوهر الحرية والإرادة فهي مخالفة للذلة والعبودية للآخرين أو للشهوات هي من سنخ التجرد وما وراء المادة فهي مخالفة للتلوثات والأوساخ المادية والطبيعية التي تجعل الإنسان أسيراً لها.
لذلك فان التوجه إلى "الأنا" بعنوان فرد يعيش الآن في مقابل بقية الافراد هي التي تحدث الحروب لأجلها أو بقول العارفين "أنا" بعنوان شخص وفرد وجسم، ومن مقتضيات هذا الجسم: الأكل، النوم، الشهوات الجنسية، وكل ما يرتبط بحياة هذا الجسم، نعم التوجه إلى "الأنا" بهذا المعنى مذموم.
والأنا التي يجب أن يسيطر عليها وينظر إليها بعين العدو كي لا تسلب اختيار الإنسان، وبعين الخادم الذي لا يغفل عنه سيده، هي "الأنا" التي تقف في مقابل بقية الأفراد، أما تلك "الأنا" التي ذكرت بمعنى عزة النفس، قوة النفس، كرامة النفس، شرف النفس، وحرية النفس، فليس فيها أنا ونحن، هي ذلك الجوهر القدسي الإلهي الذي يوجد عند كل إنسان، كل فرد لو يراجع ذاته وباطن نفسه يرى سلسلة من الصفات التي تتناسب معه وأخرى دون شأنه، وهي صفات الشر والحقارة، فكما لو رميت لوحة في الأوساخ تشعر بأن هذا المكان دون شأنها، فالأنا عندما ترى نفسها ملوثة تشعر بأن هذه التلوث غير لائق بها فتلك "الأنا" هي المعنى الواقع في مقابل المعاني، وهذه "الأنا" هي فرد واحد وتقع في مقابل بقية الأفراد.
إذاً لا يوجد تضاد بين هذين التعبيرين فمن جانب أمرنا بجهاد النفس وتزكية النفس: "واجعل نفسك عدواً تجاهده"36 "إن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده"37 ومن جانب آخر يقال: اعرف نفسك واحترمها، واكرمها واعزها، واحفظ عزّتها وشرفها وكرامتها وحريتها، هذه جوهر الإنسانية وهي حقيقة، ويوجد هذا النور الإلهي في كل إنسان ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) فهي من عالم أفضل من هذا العالم، إذاً لا يوجد ارتباط بين الإثنين.
*التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري،دار الهادي، بيروت لبنان ،ط4 1426هـ -2005م، ص119-143.
________________________________________
1- طه:14
2- العنكبوت: 45.
3- البقرة: 115.
4- آل عمران: 96 - 97.
5- اُصول الكافي، ج1.
6- صحيح البخاري، ج1.
7- الحكمة رقم: 44.
8- تحف العقول.
9-الحكمة رقم: 44.
10- نهج البلاغة، الرسالة رقم: 31 الجزء 45.
11- كان إبراهيم الأدهم أميراً، ثم تاب وصار صوفياً.
12- طبعاً أنه يقولها من ناحية خلقية.
13- نهج الفصاحة، حديث 325، ص64.
14- نهج البلاغة، الخطبة: 51.
15- بحار الأنوار، ج78، ص128.
16- مقتل الخوارزمي، ج2، ص6.
17- اللهوف، ص69.
18- بحار الأنوار، ج44، ص192 الطبعة الجديدة.
19- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص246.
20- بحار الأنوار، ج47، ص34.
21- الحكمة، 369.
22- ج2، ص203.
23- آل عمران: 139.
24- نهج البلاغة الحكمة، 453.
25- الوسائل، ج12، ص30.
26- تحف العقول، ص410.
27- بحار الأنوار، ج45، ص25.
28- نهج البلاغة، الحكمة: 44.
29- نهج البلاغة، الحكمة: 297.
30- نهج البلاغة، ص441.
31- تحف العقول، ص512.
32- المحجة البيضاء، ج5، ص6.
33- القصص: 83.
34- الوسائل، ج11، ص123.
35- الحجر: 29.
36-نهج البلاغة، الخطبة 176
37-نهج البلاغة، الخطبة 176
برامج
1788قراءة
2015-11-09 19:41:24
H@ss@n @l @w@d |