وقفت المعلمة أمام تلامذة الصف الخامس في أول يوم دراسي، وألقت على مسامعهم جملة لطيفة تجاملهم بها قائلة لهم:
إني أحبكم جميعاً..
ولكن يبدو أنها في قرارة نفسها كانت تستثني تلميذاً واحداً يجلس في الصف الأمامي، اسمه سامي.
كانت تراقب سامي خلال العام السابق، ولاحظت أنه لا يختلط مع بقية الأطفال وهو دائماً غير مبتهج ، و ملابسه دائماً متسخة، وبلغ الأمر بالمعلِّمة حدًّاً أصبحت فيه تجد متعة في تصحيح مسابقاته بقلم أحمر، وتستلذ بأن تضع تحتها خطاً أحمر عريض، وتكتب بكل انتقام عبارة "راسب" بخط منمق في أسفل بطاقة علاماته.
في يومٍ من الأيام، طلبت مِنها الإدارة مُراجَعَة مَلَفات التلامِذة كافة في صفها، منذ بداية حياتهم الدراسية في المدرسة، وإذ بملف سامي يقع بين يديها، فوضعته جانباً على سبيل الحشرية التربوية إذا صح التعبير، ثم عمدت إلى قراءته في نهاية الدوام بتأنٍّ وعناية. ففوجِئَت بأشياء وأشياء:
لقد كتب معلم سامي في الصف الأول الابتدائي ما يلي:
"سامي طفل ذكي ويتمتع بروح مرحة. ويؤدي عمله بعناية واهتمام، وبطريقة منظمة، ويتمتع بدماثة الأخلاق".
وكتب مُعَلِّمُه في الصف الثاني:
"سامي تلميذٌ نجيب، ومحبوبٌ من قبل زُملائِه في الصف، ولكنه يبدو منذ فترة منزعجٌ وقلقٌ بسبب إصابةِ والدتِهِ بمرضٍ عُضال، ما جعل حياته في المنزل مليئة بالمعاناة والمَشَقَّة والتـعـب".
أما مُعَلِّمُه في الصف الثالث فقد كتب عنه:
"كان لوفاة أم سامي وقعٌ صعبٌ عليه، برغم ما يبذله من جُهود .. فوالدَه لا يهتم، وحياته أضحت غير منظمة في المنزل، ولا أحد يكلف نفسه بالنظر في معاناته ".
أما معلم الصف الرابع فقد كتب:
"سامي تلميذ منطوٍ على نفسه، لا يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة، وليس لديه الكثير من الأصدقاء، وفي بعض الأحيان ينام أثناء الدرس".
... هنا أدركت المعلُّمة المشكلة، فشعرت بالخجل والندم على ما بدر منها تجاه هذا الطفل.
وبعد عدة أيام زاد سوء موقفُها، عندما أحضر لها تلامذتُها هدايا عيد المُعلِّم، ملفوفةً بأوراق جميلة وبراقة، ما عدا سامي، فكانت هديتُه مفاجئة ومؤلمة بنفس الوقت، إذ كانت ملفوفة بورقٍ داكنِ اللّون، مأخوذٍ من كيسٍ وَرَقِيٍ يُستعملُ في الدكاكين لتوضيب الخضار والمبيعات اليومية..
فماذا كانت هدية سامي يا تُرى؟
لقد كانت عبارة عن عقدٍ من الماسِ المزيَّفِ ناقصِ الأحجار، وعن قارورةِ عطرٍ ناقصةٍ، قد استُهلك منها حوالي رُبعُ الكمية.. وما إن بانت الهدية حتى ضجَّت قاعةُ الصفِّ بضحكِ الأطفال.
إلا أن المعلِّمة عبَّرت عن إعجابها الشديد بالعِقد، وبادرت إلى وضعه في عنقها، ثم رشَّت مِعصَمَها من العطر، فكان ذلك كفيلٌ بأن ينشرَ رهبةَ الصمت في القاعة.
في ذلك اليوم، لم يُسارع سامي كعادته بعد الصف ليعود مباشرةً إلى المنزل، بل انتظر خروجَ معلّمتِه ليُخاطبَها قائلاً:
إنَّ رائحَـتَـكِ اليوم تُشبهُ رائِحةَ أُمِّي !
تأثرت المعلِّمة بكلامه، ثم انهمرت دموعُها، حُزناً على أمِّ سامي من جهة، وندماً على سوء تعاملها معه من جهة ثانية. وهنا بدأت صفحةٌ جديدة من تعاطي المعلمة في موضوع سامي، ترافقت مع تسمية إدارة المدرسة للمعلمة "مربية الصف"، تُدَرِّسُ أطفال الخامس المواد كافة.
حان الوقت لأن تُولِي المعلمة سامي الاهتمامَ الذي يستحقُه كما باقي الرفاق. ومع تغَيُّر تعاملها معه بدأ سامي يُصبح أكثرُ تميزاً، وبدأ ذكاؤه يتوقد من جديد، وأضحت المعلمة تعتبره أحد التلامذة المدللين لديها.
وفي ختام السنة الدراسية وجدت المعلِّمة رسالةً عند باب صفها مكتوبٌ عليها :
"أنتِ أفضلُ مُعلّمة قابلتُها في حياتي".
(سامي)
انتقل سامي إلى مدرسة ثانوية، وبعد انقطاع دام ست سنوات كتب سامي لمعلمته يخبرها بأنه إجتاز المرحلة الثانوية، وأحرز المرتبة الثالثة في المقاطعة، وأنها لا تزال المعلمة الافضل التي قابلها في حياته.
أربع سنواتٍ أخرى مرَّت، تلقَّت بعدها المعلِّمة رسالةً من سامي يخبرها أنه تخرج من الجامعة بتقدير مشرّف جداً، وهو يُقيم حالياً في المدينة الجامعية وما زال يعتبرها أفضل وأحب معلمة عرفها.
سنوات مضت، إلى أن تلقت المعلمة رسالة أخرى من سامي يقول فيها:
"لقد حصلت على درجة الدكتوراه، وقرّرت أن أعمق دراساتي التخصصية والبحثية"
ولا تزالين أفضل وأحب معلمة قابلتها إلى الآن"
(الدكتور سامي)
وبعد فترة تلقت:
"معلمتي الغالية
لقد قررتُ أن أتزوج، وآمل أن تتكرمي بالجلوس إلى جانبي، مكان والدتي في حفل الزفاف "
أبرقت المعلِّمة لسامي مهنئة وموافقة بدون تردد.
ولكم فوجىء سامي عندما حضرت المعلمة في يوم زفافه ترتدي نفس العقد الذي أهداها إياه في طفولته، ذا الأحجاره الناقصة، وقد تعطرت بعطر القارورة التي تحمل عطر أمه.
اقترب منها، وبكل إعجابٍ وعرفانٍ بالجميل همس في أذنها قائلاً:
أشكرك على ثقتك بي وأشكرك لأنك أعدتِ إلي ثقتي بنفسي، فقد كان ذلك سرُّ نجاحي وتميُّزي.
فأجابته بحنان والدموعُ تملأُ عينيها:
إنما أنا من ينبغي علي أن أشكرك، فأنتَ مَن علَّمني كيف أكونُ مُعلِّمة ناجِحة ومُتَميّزة، وبفضلك تعلمتُ الأساليبَ التربوية الصحيحة التي كان علي تطبيقها منذ بداية حياتي في التعليم.
((هذه القصة هي واقعية حصلت في إحدى الدول فقط اسم سامي هو اسم مُستعار والطفل صار من أشهر الأطباء، ولديه جناح خاص باسمه يُعدُّ من أفضل مراكز "علاج السرطان" في الدولة التي ينتمي إليها).
منقول للفائدة
من المهم أن لا نحكم على الأشخاص من شكلهم الخارجي
دليلة
1207قراءة
2016-01-08 22:39:52