وهناك التربية إلى جانب الوراثة، لأن العديد من الفضائل والكمالات تنتقل إلى الأبناء من خلال التربية الصحيحة.
ويلاحظ أن هذين العاملين (الوراثة والتربية) متواجدان في أعلى درجاتهما فيما يخصّ زينب عليها السلام، حيث نقرأ في زيارتها: "السلام على من رضعت بِلُبان الإيمان".
نعم، زينب الكبرى عليها السلام وُلدت في بيت الوحي والولاية، من أب وأم معصومين وعاشت في حضن النبوة ومهد الإمامة والولاية ومركز نزول الوحي الإلهي ورضعت من المرأة المعصومة الفردية في عالم الوجود "فاطمة الزهراء عليها السلام" ومنها تعلمت الحنان والعفة والحياء والشهامة والعطوفة وإلى جانب ذلك فقد كبرت وتربت إلى جانب كبار أساتذة عالم الإنسانية، أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وأخويها الحسن والحسين عليهما السلام.
1. ينقل "يحيى المازني" وهو من العلماء ورواة الحديث أنه عاش مدة طويلة في المدينة في جوار علي عليه السلام. وكان منزله إلى جوار المنزل الذي كانت تسكنه زينب. ينقل أنه لم ير زينب ولم يسمع صوتها ولو لمرة واحدة، وكلما أرادت زيارة جدها، كانت تفعل ذلك ليلاً، حيث كان يمشي أبوها أمامها وأخواها الحسن والحسين على جانبيها. عندما كانت تصل إلى قبر جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان علي عليه السلام يطفي الشموع المضاءة في أطراف القبر. في أحد الأيام سأل الإمام الحسن عليه السلام عن سبب هذا الأمر، فأجابه الإمام عليه السلام: "أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب"1.
وفي هذا الشأن يقول الشيخ جعفر نقدي: "فالخمسة أصحاب العباد هم الذين قاموا بتربيتها وتثقيفها وتهذيبها وكفاك بهم مؤدبين ومعلمين"2.
بالمناسبة، أين ذهبت حدود الحياء هذه؟ ولماذا نشاهد في المجتمع الشيعي العلوي، يخرج الرجل مع زوجته وهي بكامل زينتها ومع بناتهم غير المحجبات؟!
2- الحياء منذ بداية الشباب
تقول الدكتور "عائشة بنت الشاطئ" وهي سيدة من اهل السنة وباحثة: كيف كانت زينب في بداية الشباب؟ امتنعت المراجع التاريخية عن وصف صورة زينب في هذه الأوقات، لأنها كانت تعيش في البيت. كان لا يمكن النظر إليها إلا من وراء حجاب، ولكن وبعد عشرات السنين من هذا التاريخ، خرجت زينب من البيت حيث أظهرتها لنا مصيبة كربلاء العظيمة3.
إذاً لم يشاهدها التاريخ لأن حياءَها كان يمنع ذلك وقد أوصت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام النساء قائلة: "خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهنَّ الرجال"4.
ولولا الأمر الإلهي حيث "إن الله شاء أن يراهنّ سبايا" لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسمح لنفسه أن ترافقه زينب في رحلة كربلا.
3- مظهر الحياء عند الحركة من المدينة
تذكر المدينة ليلة خروج قافلة الحياء مجللة بالحياء والعظمة متجهة نحو مكة. كانت تلك الليلة، إحدى ليالي شهر رجب حيث خرجت من المدينة قافلة مجللة، كانت سيدتا "الحياء والعفة" تحيطان شباب بني هاشم وعلى رأسهم سيد شباب أهل الجنة. ينقل أحد الرواة في أحد المقاطع التاريخية: "رأيت نحواً من أربعين محملاً، وقد زيّنت المحامل بملابس الحرير والديباج.
قال: فعند ذلك أمر الحسين عليه السلام بني هاشم بأن يُركبوا محارمهنَّ على المحامل، فبينما أنا أنظر وإذا بشابّ قد خرج من دار الحسين عليه السلام وهو طويل القامة وعلى خده علامة ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحّوا يا بني هاشم! وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجرّان أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفّت بهما إماؤهما، فتقدّم ذلك الشابّ إلى محمل من المحامل وجثى على ركبتيه، وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل، فسألت بعض الناس عنهما فقيل: أمّا إحداهما فزينب، والأُخرى أُمّ كلثوم بنتا أمير المؤمنين.
فقلت: ومن هذا الشابّ؟ فقيل لي: هو قمر بني هاشم العبّاس بن أمير المؤمنين.
ثمّ رأيت بنتين صغيرتين كأنّ الله تعالى لم يخلق مثلهما، فجعل واحدة مع زينب، والأُخرى مع أمّ كلثوم، فسألتُ عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين عليه السلام، ثمّ خرج غلام آخر كأنّه البدر الطالع، ومعه امرأة، وقدحفّت بها إماؤها، فأركبها ذلك الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقيل لي: أمّا الغلام فهو عليّ الأكبر ابن الحسين عليه السلام، والامرأة أُمّه ليلى زوجة الحسين عليه السلام"5.
4- الزينة فداءً للحياء والعفة
هجم جيش الكوفة والشام على خيم الإمام الحسين عليه السلام بعد أن أخذوا منه لباسه. كانت تلك اللحظات أكثرها مرارة وألماً. يمكن القول إنّ زينب الكبرى كانت تشعر بذاك الألم أكثر من غيرها، لأنها من جهة كانت تتولى الحفاظ والدفاع عن خيم الحياء والعفة، ومن جهة أخرى كان عليها الحفاظ على روح إمام زمانها. كانت ابنة علي تعرف أخلاق أهل الكوفة وتصرفاتهم، لذلك فكرت بالحفاظ على عفة وحياء النساء، فجمعت كل ما يمتلكن من زينة ونادت عمر بن سعد مانعة إياه من تحريك عسكره نحو الخيم فهي تقدم له كل ما يطلبه من زينة، كانت تفكر بعدم السماح للأعداء بالوصول إلى آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
جمعت كل ما وجدت من الزينة حتى إنها قدمت لهم أقراط فاطمة بنت الحسين عليه السلام التي كانت ذكرى من والدها. ثم إنها جمعت النساء والأطفال في زاوية، ونادت على الجند بأن الزينة قد جمعت فمن يرغب فَلْيأتِ وليأخذ منها. وهذا ما حصل بالفعل6.
5- صوت زينب عليها السلام يعلو على غير المقيدات بالحياء:
دخلت قافلة الحياء الكوفة، وكان الناس يتفرجون على الأسرى وهم يقادون إلى عبيد الله بن زياد. في هذه الأثناء علا صوت زينب عليها السلام: "يا أهل الكوفة، أما تستحيون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم"7؟!
6- تجلِّي الحياء في دار الإمارة في الكوفة:
عندما وصلت زينب الكبرى عليها السلام أثناء الأسر إلى دار الإمارة، أمسكت غضبها، لأنها تعرف هذا المكان، حيث كان المكان بيتاً لزينب في يوم من الأيام عندما كان يذكر اسم أبيها علي عليه السلام مع تلك العظمة. اجتمعت الدموع في عينيها لكنها امتنعت عن البكاء. هناك ألقت نظرها فرأت عبيد الله ابن زياد يجلس في مكان كان يجلس فيه والدها يستقبل الضيوف. لم تعره اهتماماً بل أزاحت بواجهها عنه وانزوت في زاوية من المكان يجللها الحياء والنجابة والطهارة8.
سأل ابن زياد: من هذه المرأة؟ (وكرر السؤال ثلاث مرات). أمّا زينب فلم تجب، فمن جهة كان حياؤها، ومن جهة أخرى علمها بما يريده ابن زياد من احتقارها يمنعها من الجواب. إلى أن غضب ابن زياد الملعون وألقى بعض السموم التي على لسانه وقال: "كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك"9؟ أمّا زينب فقدمت جواباً مختصراً جميلاً يعود إلى حيائها ثم قالت: "ما رأيت إلا جميلاً"10.
7- مجلس يزيد، قمة المواجهة بين الحياء وعدمه:
دعا يزيد كبار أهل الشام والسفراء الأجانب، ثم أمر بإدخال الأسرى. كان الحاضرون في المجلس ينظرون إلى بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الذين كانوا مجللين بالعزة والاحترام إلى الأمس القريب، هؤلاء الطاهرون الذين لم يشاهد الأجانب وجوههم من قبل.
تذكّر الحاضرون عظمة أقارب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فغرقوا في الخجل والندم، إلا أنّ هناك رجلاً شامياً قوياً أحمرَ الوجه، أخذ يحدق بفاطمة ابنة الحسين عليه السلام
وكأنه أراد أن يبتلعها بنظراته. أمّا فاطمة فقد ظهر عليها الخوف فاحتمت بعمتها زينب عليها السلام.
نهض الرجل الشامي وطلب من يزيد إهداءه فاطمة عليها السلام. تمسّكت فاطمة بعمتها زينب عليها السلام التي حضنتها وخاطبته بعبارات أوضحت له أنه بعيد كل البعد عن مناه11. ثم جرى حديث بين زينب عليها السلام ويزيد حتى علا صوت الحياء ينهال بسهامه على من لا يملك أدنى مرتبة منه فقالت: "أَمِنَ العدلِ يابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإمائك وسَوْقُك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا قد هُتكت ستورهنَّ وأُبديت وجوهُهن تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد يستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههنَّ القريب والبعيد والدنيُّ والشريف، ليس معهنَّ من رجالهنَّ وليّ ولا من حُماتهن حمي؟! وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء"12؟!
ثم هدأت زينب عليها السلام وكان كلامها قد دفع يزيد إلى السكوت فسكت الجميع. يقال إنّ هند ابنة عبد الله بن عامر وهي امرأة يزيد قد سمعت ما دار في مجلس زوجها، حتى إنها دخلت المجلس لتوبخ يزيد على عدم حيائه13.
المسألة الهامة التي تحدثت وأشارت إليها السيدة زينب عليها السلام أنّ نساء يزيد قد ارتدَيْنَ الحجاب وقد حافظن عليه، إلا أنّ نساء أهل البيت عليهم السلام يشاهدهنّ كلّ من هو في المجلس من غير المحارم، لذلك لم تتحدث عن أن نساء يزيد تسكن القصور والأسرى يسكنون الأكواخ بل تحدثت فقط وفقط حول الحجاب والحفاظ على الحرمة والحياء، وهذا الذي يشكل أكبر درس للنسوة في مجتمعنا المعاصر اللواتي يجب عليهن الحفاظ على حدود الحياء تحت أي ظروف وفي أي حال.
8- العفة والطهارة نتيجة لحياء زينب:
إنّ العفة والطهارة هي أبرز وأهم زينة للنساء وأغلى الجواهر التي يمكن أن يمتلكنها. لقد تعلمت زينب درس العفة من مدرسة أبيها، هناك عندما كان يقول: "ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعَفَّ يكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"14. ثم إنّ الحياء الذاتي لزينب عليها السلام هو الذي جعل منها في قمة العفة والطهارة، لأن أبرز نتائج الحياء، العفة والطهارة وكما يقول علي عليه السلام: "سبب العفة الحياء"15. ويقول في مكان آخر: "على قدر الحياء تكون العفة"16.
إن التربية العائلية والحياء الذاتي لزينب عليها السلام هما اللذان دفعاها للحفاظ على عفتها في أصعب الظروف. يقول المؤرخون: "وهي تستر وجهها بكفها لأن قناعها أُخذ منها"17.
هوامش
1. الشيخ جعفر نقدي، كتاب زينب الكبرى، ص22، ورياحين الشريعة، ج3، ص60.
2. زينب الكبرى، ص20.
3. عائشة بنت الشاطيء، سيدة كربلا، ترجمة السيد رضا الصدر، قم، نشر مركز الاعلام الإسلامي، ط3، 1378، ص58 . 59.
4. وسائل الشيعة، ج14، ص43، الحديث 7.
5. موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، معهد دراسات باقر العلوم، قم، مؤسسة الهادي، ط1، ص297 . 298.
6. أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1349هـ.ق.، ج3، ص204.
7. السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم، مقتل الحسين عليه السلام، ص310.
8. نظرة على سيدة كربلاء زينب، ص138 . 139.
9. بحار الأنوار، ج45، ص179.
10. م.ن، ج45، ص116.
11. سيدة كربلا، زينب، ص144.
12. بحار الأنوار، ج45، ص133. وراجع: الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص122.
13. سيدة كربلا، ص147.
14. نهج البلاغة، فيض الإسلام، الحكمة 466.
15. ميزان الحكمة، ج2، ص717، الرواية 4557.
16. م.ن، الرواية 4559.
17. الجزائري، الخصال الزينبية، ص345.
تدريب
4586قراءة
2018-01-24 09:54:13