12 سنة من العطاء

 

جديد المواضيع

القرآن الكريم >> سلسة تفسير قصار السور القرآنية


سلسة تفسير قصار السور القرآنية


في هذه السلسة، سنقوم بشرح وتفسير بعضًا من قصار السور القرآنيّة التي نرددها على الأغلب كل يوم. وهي منقولة من موقع جمعية المعارف لتعميم الفائدة أكئر.

والله ولي التوفيق


السورة الأولى: سورة الناس


بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * االَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ *﴾.

1- شرح المفردات

1) الوسواس: الصوت الخفي الذي لا يحسّ.
2) الخناس: صيغة مبالغة من الخنوس وهو التراجع والاختفاء.
3) الجنة: أي الجن في مقابل الإنس.


2- هوية السورة

• نزلت هذه السورة في مكة المكرّمة1 وآياتها ست.


محتوى السورة وفضيلتها

الإنسان معرض دائماً لوساوس الشيطان, وشياطين الجن والإنس يسعون دائماً للنفوذ في قلبه وروحه. ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم بفساد العالِم.

هذه السورة تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره القدوة والأسوة أن يستعيذ باللَّه من شر الموسوسين.

محتوى هذه السورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يدوران حول الاستعاذة باللَّه من الشرور والآفات، مع فارق أن سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السورة تركز على شر (الوسواس الخناس).

وفي فضيلة هذه السورة وردت روايات متعددة منها ما روي:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً. فأتاه جبرائيل وميكائيل، فقعد جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق وميكائيل بقل أعوذ برب الناس"2.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:"من أوتر بالمعوذتين وقل هو اللَّه أحد قيل له: يا عبد اللَّه أبشر فقد قبل اللَّه وترك"3.

3- في كنف السورة

1. الوسواس


الإنسان مركب من العقل والشهوة، والملائكة من العقل فقط، والحيوان من الشهوة فقط، كما ورد في بعض الأحاديث، لذلك كان من الطبيعي أن الإنسان تتجاذبه الموجات المتقابلة، من جهة موجة إلهية ملائكية ومصدرها العقل، ومن جهة أخرى موجة شيطانية إبليسية ومصدرها الشهوة، فهما يتصارعان، فإذا تغلب عقل الإنسان على شهوته أصبح أفضل من الملائكة، وإذا تغلبت شهوة الإنسان على عقله أصبح أخسّ‏َ من الحيوان.

من هذا التصارع والتضاد في روح الإنسان وقلبه، يدخل الوسواس لكي يغلّب جهة الشهوة والهوى على جهة العقل والحكمة.

ولقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:"ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، وأذن ينفث فيها الملك، فيؤيد اللَّه المؤمن بالملك، وذلك قوله تعالى: ﴿... وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ...﴾(المجادلة:22)".

وعنه عليه السلام: "ما من قلب إلا وله أذنان، على أحدهما ملك مرشد، وعلى الآخر شيطان مفتر، هذا يأمره وهذا يزجره، وكذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي، كما يحمل الشيطان من الجن".

2. علاج الوسواس

والوسواس مخالف للعقل والحكمة إلا أن كثرة تكرار الوسوسة على النفس تؤثر سلباً عليها، كما أن الإيحاء الإلهي الملائكي كثرة تكراره في النفس يؤثر إيجاباً عليها.

وهذا سرُّ الأمر بذكر اللَّه تعالى ذكراً كثيراً لأن النفس إذا لم تملئ بذكر اللَّه، فسيدخل الوسواس الشيطاني الشهواني إلى الفراغ النفسي.

ولقد حثّ الإسلام العظيم على ذكر اللَّه، فقال القرآن الكريم:﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾(الأحزاب:41).﴿اذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾(آل عمران:41).

وحذّر من الإعراض عن ذكره: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾(الزخرف:36).

وقال الصادق عليه السلام: "ما ابتلي المؤمن بشي‏ء أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها، قيل: وما هن؟ قال: المواساة في ذات اللَّه، والانصاف من نفسه، وذكر اللَّه كثيراً، أما وإني لا أقول لكم: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، ولكن ذكر اللَّه عندما أحل له، وذكر اللَّه عندما حرم عليه".

واعتبر الإمام الباقر عليه السلام ذكر اللَّه صلاة، فقال:"لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللَّه قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، إن اللَّه يقول: الذين يذكرون اللَّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض...".

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول تعالى: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك الأرض بعقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال".

وقد تحدّث الإمام الخميني عن تأثير الإيحاء المكرّر في النفس الإنسانية ولكن بمفهوم التلقين فقال:"إن الكتب التي جاءت لبناء الإنسان كالقرآن الكريم، والكتب التي كتبت في الأخلاق وتستهدف بناء الإنسان وبناء الاجتماع تكرّر المواضيع حسب أهميتها. ويكثر التكرار في القرآن الكريم، ويتسائل البعض لماذا هذا التكرار؟ في حين أنه لازم أن التلقين هو من الأشياء المفيدة لبناء الإنسان. لو أراد الإنسان أن يبني نفسه لوجب عليه أن يلقّن نفسه تلك الأمور المرتبطة ببناء نفسه ويكرّرها.

ويزداد تأثير تلك الأمور التي ينبغي أن تؤثّر في نفس الإنسان من خلال التلقين والتكرار. فسبب تكرار الأدعية وتكرار الصلاة في كل يوم عدّة مرات ودائماً هو لكي يقول الإنسان ويسمع، ويقرأ بنفسه ويستمع تلك الآيات التي تبنيه مثل سورة الحمد المباركة... فالتلقين هو من الأمور الضرورية.

وسبب أنني ألقِّن الأصدقاء في بعض المسائل مطلباً باستمرار هو أهميّة المطلب... ولذا ينبغي تكرار المسائل المهمّة، وأن يقوم الخطباء بالتكرار، ويلقن المستمعون أنفسهم باستمرار حتى تؤثر في النفوس إنشاء اللَّه"4.

ويقول أيضاً قدس سره:"وكان شيخنا الجليل (هو آية اللَّه محمد علي الملك آبادي) يقول: إن المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(الحشر:18).

إلى آخر السورة المباركة، مع تدبّر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثِّرة جدّاً في إصلاح النفس وفي الوقاية من شرِّ النفس والشيطان"5.

اليهود كان من بعض معالجاتهم للمريض أنهم يهمسون في أذن المصاب ببعض آيات من سفر الخروج التي تقول: "إذا أصغيت لكلام الرّب إلهك، وعملت ما هو حق في نظره، واستمعت إلى وصاياه، وحافظت على جميع فرائضه فلن أرسل عليك أي مرض من الأمراض التي أرسلتها على المصريين فإني أنا الرب الذي يبرئك".

إن هذا الهمس والإيحاء وتأثيره يعرف بعلم النفس الحديث "بالإيحاء" الذي يؤثر في النفس الإنسانية تأثيراً لا شك في فاعليته ونجاحه كما تدلّ تجارب هؤلاء العلماء.

3. تنوّع الوسواس في هذا العصر

الوسواس الشيطاني كانت وسائله في الماضي أقل خطراً ودخولاً إلى المجتمع المؤمن، أما في هذا الزمن فلقد كثرت الإغراءات وقلّت الكوابح، سبل الشيطان مفتوحة، وأبواق الضلال مرتفعة أصواتها، في هذا الزمن أصبح المؤمن فيه قابضاً على إيمانه كأنه قابض على الجمر.

فالوسواس في هذا الزمن يأتي بألف ملبس وملبس، فلا بد من اللجوء إلى رب الناس وملك الناس وإله الناس، والاستعاذة به منه في كل أشكاله وصوره، أصدقاء السوء، الجلساء المنحرفون، الولاة الجبابرة الطواغيت، الكتاب الخطباء الشعراء الفاسدون، المدارس الإلحادية والالتقاطية المخادعة، ووسائل الإعلام الفاسدة، والانترنت، إلى غير ذلك الذي يندرج تحت المفهوم الواسع للوسواس الخنّاس.

﴿... إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾(النساء:76).

*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص109-116.
--------------------------------------------------------------------------------

1- وقيل في المدينة.
2- نور الثقلين، ج‏5، ص‏7645، ومجمع البيان، ج‏10، ص‏567 و569.
3- المصدر السابق.
4- الإمام الخميني كتيب التربية والمجتمع مركز الإمام الخميني، ص‏67.
5- ن.م، ص‏39
سورة النصربسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *﴾.

1- شرح المفردات
1- دين اللَّه: الإسلام.
2- أفواجاً: جماعة بعد جماعة وزمرة بعد زمرة.
3- سبِّح: نزّه.

2- هوية السورة
• نزلت هذه السورة في المدينة وآياتها ثلاث.

محتوى السورة وفضيلتها
هذه السورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين اللَّه أفواجاً، وتدعو النبي أن يسبح اللَّه ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى "فتح مكة"، خاصة وأن العرب كما جاء في الروايات كانت تعتقد أن نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يفتح مكة إلا إذا كان على حق... ولو لم يكن على حق فربّ‏ُ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة. ولذلك دخل العرب في دين اللَّه بعد فتح مكة أفواجاً.

قيل: إن هذه السورة نزلت بعد "صلح الحديبية" في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكة.

وما ذكره بعضهم من نزول هذه السورة بعد فتح مكة في السنة العاشرة للهجرة في حجة الوداع بعيد جداً. لأن عبارات السورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.

ومن أسماء هذه السورة "التوديع" لأنها تتضمن خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

في الرواية أن هذه السورة لما نزلت قرأها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العباس فبكى.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا عم؟

فقال: أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول اللّه.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه لكما تقول"1.

ظاهر السورة ليس فيه أنباء عن قرب رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل عن الفتح والنصر. فكيف فهم العباس أنها تنعي إلى الرسول نفسه؟

يبدو أن دلالة السورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الذي أوحى بقرب ارتحال الرسول إلى جوار ربّه.

في فضيلة السورة ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من قرأها فكأنما شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة"2.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:"من قرأ (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) في نافلة أو فريضة نصره اللّه على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من حرِّ جهنم..."3.

في كنف السورة
1- نصر اللَّه تعالى

في القرآن الكريم كثير من الآيات الكريمة تضيف النصر إلى اللَّه تعالى، يقول تعالى:﴿... أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾(البقرة:214).﴿... وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ...﴾(آل عمران:126).﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ...﴾(التوبة:25).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وهذه الإضافة أي إضافة النصر إلى اللَّه تعالى تعني أن النصر يحتاج إلى مدد إلهي، فإن كل شي‏ء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون والمدد والتوفيق الإلهي، وهي إمدادات غيبية ترتفع عن المسائل الحسيّة، وقبل الحديث عن أنواع الإمدادات وشروطها، نتعرّض بالإشارة إلى مصطلحين قرآنيين:

الرحمة الرحمانية: هي الألطاف الإلهية الشاملة لكلّ‏ِ الموجودات، فوجود كل شي‏ء في هذا العالم بنفسه رحمة لذلك الموجود. وكذلك تعتبر كل الوسائل التي خلقت لأجل وجوده والحفاظ على بقائه رحمة له أيضاً، وهذه الرحمة تفاض وفق قوانين طبيعية عامة.

الرحمة الرحيمية: هي تلك الألطاف الإلهية الخاصة، التي يستحقها المكلَّف لحسن طاعته وامتثاله وأدائه، وهي تفاض وفق شروط وقوانين خاصة ومعينة.

ونحن نطلب من اللَّه تعالى هذا النوع الخاص من الرحمة يومياً في صلاتنا:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5).

وتشمل هذه الألطاف الإنسان في حياته الفرديّة أو الاجتماعية وتنقذه من كثير من المآزق.

وقد شمل اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الألطاف حيث يقول القرآن بحق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * َوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾(الضحى:6-8).

فالإنسان المؤمن بحاجة إلى مثل تلك الألطاف الإلهية الخاصة، والنصر من اللَّه تعالى هو لطف منه على عباده المؤمنين، وهو مدد غيبي لا يتحقق إلا بشروط أقرّها اللَّه تعالى وهي:

أ- الإيمان: يقول تعالى:﴿... وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم:47).

ب- العمل والجهاد: قال تعالى: ﴿... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد:7).

فقوله: (إن تنصروا) في هذه الآية، يفهم منه صريحاً أن اعطاء ومنح النصر مشروط بمن يعمل وينصر ويجاهد، والآيات الكريمة في الحث على الجهاد كثيرة، فليس الأمر كما قال اليهود للنبي موسى عليه السلام حين أمرهم بالقتال لدخول الأرض المقدّسة:﴿... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾(المائدة:24).

ج- الأمل والصدق: يقول تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾(البقرة:214).

فنلاحظ أن اللَّه تعالى أراد للمؤمنين رغم ما بهم من ضيق وضرّ وبأساء أن يأملوا نصر اللَّه فهو قريب.

ويقول أمير المجاهدين الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة:"... ولقد كان الرجل منا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منا، فلمّا رأى اللَّه صدقنا أنزل لعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقرَّ الإسلام..."4.

د- في سبيل اللَّه: أن يكون العمل والجهاد كله في سبيل اللَّه، فالنصرة لا بد أن تكون للَّهإن تنصروا الله).

والمجاهدة لا بد أن تكون في اللَّه:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت:69).

هـ إعداد العدّة: قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...﴾(الأنفال:60).

إذن لا يتحقق المدد الغيبي والنصر الإلهي عبثاً ولا مجاناً ونحن عاكفون في البيوت كما قال اليهود لنبيهم:﴿... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾(المائدة:24).

بل لا بد من توفّر الشروط الموضوعية لكي تتحقق الألطاف الإلهية، وليست هذه الشروط من المستحيلات.

فدروس وعبر المسلمين الأوائل إلهامات مهمَّة لكي نأخذ منها المدد الواقعي.

2- النصر ودخول الناس في الإسلام
إن النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتصر عليهم، من حيث تهيؤهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القوي، لا مع المنهزم الضعيف.

لذلك نرى السورة الكريمة ترتّب على النصر دخول الناس في دين اللَّه أفواجاً.

3- استمرارية النصر مشترطة
النصر يعقبه انفعالات نفسية خطيرة على المنتصرين كالعجب، والغرور، والتكبر، والاقتناع بما وصلوا إليه، إلى غير ذلك من الصفات، من هنا ولكي يستمر النصر لا بد من إزالة هذه الرذائل الأخلاقية من نفوس المؤمنين، وذلك بدوام العلاقة باللَّه تعالى، بالتسبيح والاستغفار والتوبة، وهي رمز لدوام العلاقة باللَّه تعالى والتواضع أمام نعمه.

*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص89-97.
1- مجمع البيان، ج‏10، ص 554. هذه الرواية وردت بألفاظ مختلفة الميزان، ج‏20، ص‏532.
2- مجمع البيان، ج‏10، ص‏553.
3- نفس المصدر.
4- نهج البلاغة، من كلام له في وصف حربهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج‏1، ص‏104، تحقيق الشيخ محمد عبدو، الخطبة 56.

 


سورة الشمس

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)﴾.

 

شرح المفردات:


1- الضحى: انتشار نور الشمس.
2- تلاها: اتبعها.
3- جلاها: أظهرها وأبرزها.
4- يغشاها: غطاها أو يلبسها السواد.
5- طحاها: بسطها ومَهَدَها.
6- زكاها: طهرها.
7- دساها: أخفاها أو جعلها قليلة.
8- طغواها: طغيانها.
9- عقروها: أهلكوها.
10- دمدم: عذب وعاقب وأهلك.
11- عقباها: عاقبتها.

هوية السورة:


مكية، وعدد آياتها خمس عشر آية.

محتوى السورة وفضيلتها:

هذه السورة هي في الواقع سورة تهذيب النفس، وتطهير القلوب من الأدران، ومعانيها تدور حول هذا الهدف. وفي مقدمتها قسم بأحد عشر مظهراً من مظاهر الخليقة وبذات الباري سبحانه، من أجل التأكيد على أن فلاح الإنسان يتوقف على تزكية نفسه. والسورة فيها من القسم ما لم يجتمع في سورة أخرى.

وفي المقطع الأخير من السورة ذكر لقوم ثمود باعتبارهم نموذجاً من أقوام طغت وتمردت، وانحدرت بسبب ترك تزكية نفسها إلى هاوية الشقاء الأبدي، والعقاب الإلهي الشديد.

هذه السورة القصيرة في الواقع تكشف عن مسألة مصيرية هامة من مسائل البشرية، وتبيّن نظام الإسلام في تقييم أفراد البشر.

وفي فضيلة تلاوة هذه السورة يكفي أن نذكر حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

"من قرأها فكأنما تصدّق بكل شي‏ء طلعت عليه الشمس والقمر"1.


في كنف السورة:


1- الظواهر الكونية والنفس الإنسانية:

إن اقتران النفس الإنسانية مع الظواهر الكونية كالشمس والقمر والأرض والسماء والليل والنهار، مع ما تتضمنه هذه الظواهر من عظمة يدلّ‏ُ على عظمة النفس الإنسانية ومدى دورها في هذا الكون العظيم.

فموضوع النفس الإنسانية موضوع خطير وعظيم، كعظمة السماء والأرض والشمس والقمر... فهي (أي النفس الإنسانية) تستحق الاهتمام من الإنسان ومعرفة ما يصلحها وما يفسدها، كما أن هذه الظواهر تستحق التفكُّر.

من هنا تعمل هذه الأقسام على تحريك الفكر في الإنسان كي يمعن النظر في هذه الموضوعات الهامة من عالم الخليقة، وليتخذ منها سبيلاً إلى اللَّه تعالى.


فالشمس مثلاً: ذات دور هام وبنّاء جداً في الموجودات الحيّة على ظهر البسيطة. فهي إضافة إلى كونها مصدراً للنور والحرارة، وهما عاملان أساسيان في الحياة الأرضية، تعتبر مصدراً لغيرهما من المظاهر الحياتية. حركة الرياح، وهطول الأمطار، ونمو النباتات، وجريان الأنهار والشلالات، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري، كل واحد منها يرتبط بنظرة دقيقة بنور الشمس.

ولو قدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفئ يوماً لساد الظلام والموت في كل مكان.

هذا جانب من التفكُّر في بعض ما أقسمت به هذه السورة المباركة وهو جزء بسيط جدّاً من هذا الكون الشاسع.

"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" 2.

2- أهمية تهذيب النفس:

كلّما ازداد عدد أقسام القرآن ازدادت أهميّة الموضوع. وفي هذه السورة المباركة أكبر عدد من الأقسام، ثم جاء التركيز على أن النجاح والفلاح في تزكية النفس، وأن الخيبة والخسران في ترك التزكية. وهذه في الواقع أهم مسألة في حياة الإنسان، والقرآن إذ يطرح هذه الحقيقة إنما يؤكد على أن فلاح الإنسان لا يتوقّف على جمع المال والمتاع الفان ونيل المنصب والمقام، ولا على أعمال أشخاص آخرين كما هو معروف عند المسيحيين بشأن ارتباط فلاح الإنسان بتضحية المسيح بل الفلاح يرتبط بتزكية النفس وتطهيرها وسموها في ظل الإيمان والعمل الصالح.

وشقاء الإنسان ليس أيضاً وليد قضاء وقدر اجباريين، ولا نتيجة مصير مرسوم، ولا بسبب فعل هذا أو ذاك، بل هو بسبب التلوّث بالذنوب والانحراف عن مسير التقوى.

وفي التاريخ نماذج عديدة تؤكِّد هذه الحقيقة، أقصد أن فلاح الإنسان إنما هو بعمله وبإرادته وصبره وتزكيته لنفسه.


نعطي حادثة يرويها التاريخ فيها عبرة لمن اعتبر، وازدجار لمن ازدجر، ففي الروايات أن زوج العزيز -زليخا- قالت ليوسف لما أصبح حاكم مصر: إن الحرص والشهوة تصير الملوك عبيداً، وأن الصبر والتقوى يصيّر العبيد ملوكاً، فقال يوسف عليه السلام: قال اللَّه تعالى:

"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".

وعنها أيضاً قالت لما رأت موكب يوسف مارّاً من أمامها: "الحمد للَّه الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً".

3- عاقبة أمّة لم تهذِّب نفسها:

الفلاح والخيبة الناتجان عن تزكية النفس وعدمها، غير مقتصرين على الإنسان الفرد بل هذه السنّة الإلهية تنطبق على الأمم، والآيات الأخيرة من هذه السورة المباركة تشير إلى هذه السنّة الإلهية، فتتحدّث عن مصير قوم "ثمود" بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق.

فقوم ثمود من أقدم الأقوام التي سكنت منطقة جبلية بين الحجاز والشام كانت لهم حياة رغدة مرفهة، وأرض خصبة، وقصور فخمة، غير أنهم لم يؤدوا شكر هذه النعم، بل طغوا وكذبوا نبيهم صالحاً عليه السلام، واستهزأوا بآيات اللَّه، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية.

ثم تستعرض مقطعاً بارزاً من طغيان القوم وتقول: إذ انبعث أشقاها، وأشقى ثمود، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم، وكان قتلها اعلان حرب على النبي صالح عليه السلام.

هذا ويلاحظ أن قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية:

"إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا".

بينما نسب العقر إلى قوم ثمود جميعاً "فَعَقَرُوهَا"، وهذا يعني أن كل هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة، وذلك لأن هذه الجريمة تمّت برضا القوم فهم شركاء في الجريمة بهذا الرضا.


وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال:

"إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللَّه بالعذاب لمّا عموه بالرضا، فقال سبحانه: "فعقروها فأصبحوا نادمين"".

 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏496.
2- آل عمران:191.

*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م .

 


سورة الليل‏
بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى(13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى(15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21)﴾.

شرح المفردات

1- يغشى: يغطّي.
2- تجلى: ظهر.
3- شتى: مختلف ومتنوع.
4- اليسرى: العمل الصالح.
5- استغنى: طلب الغنى.
6- العسرى: التعب.
7- يغني:يقي ويحمي.
8- تردى: هلك وسقط في العذاب.
9- تلظى: تشتعل وتتوهج.
10- يتزكى يتطهر.


هوية السورة

هذه السورة مكية، وعدد آياتها إحدى وعشرون آية.

سبب النزول
قيل في سبب نزولها: أن هذه السورة نزلت في رجل كان له نخل كثير. ومن تلك الأشجار نخلة مائلة تطل بفرعها على بيت فقير ذي عيالٍ. فكان الرجل يمنع عياله (الفقير) من أخذ ما يسقط من النخلة في الدار وإذا أكل أحدهم شيئاً منها أدخل إصبعه في فيه وأخرجه. فشكا الفقير إلى النبي. فعرض النبي على الرجل أن يعطيه إياه مقابل نخلة في الجنة فرفض. إلا أن أحد المؤمنين اشتراه منه بأربعين نخلة وقام بإعطاء تلك النخلة للنبي الذي بادر إلى بيت الفقير ليعلمه بأن النخلة أصبحت ملكه. فأنزل اللَّه هذه السورة1.

محتوى السورة وفضيلتها
هذه السورة تحمل كل خصائص السور المكية من قِصَر في الآيات، وحرارة في طرح المحتوى، وتركز أساساً على القيامة وعلى ما في ذلك اليوم من جزاء وعقاب.

بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السورة يأتي تقسيم الناس إلى منفقين متّقين، وبخلاء منكرين. وتذكر عاقبة كل مجموعة، اليسرُ والسعادة والهناء للمجموعة الأولى، والعسرُ والضنك والشقاء للمجموعة الثانية.

وفي مقطع آخر من السورة إشارة إلى أن الهداية على اللَّه سبحانه، وأنه تعالى أنذرهم من نار جهنم.

ثم تذكر السورة في نهايتها من يدخل هذه النار ومن ينجو منها، مع ذكر أوصاف الفريقين.

في فضيلة تلاوة هذه السورة
ورد عن النبي أنه قال:"من قرأها أعطاه اللَّه حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسّر له اليسر"2.

في كنف السورة
في هذه السورة المباركة استفادات عديدة:

1- أنها كما السورة السابقة "سورة الشمس" تحفِّز العقل والتفكير الإنساني على النظر والتأمل في الظواهر الكونية، ولا يمرُّ عليها مروراً لا فائدة فيه.

فإن من المعروف أن الشي‏ء الذي تراه دائماً يفقد الاهتمام والاعتناء، فالشمس مثلاً الناس يمرّون عليها ولا يعرفون قيمتها لأنها دائماً في وجههم، وكذا الليل والنهار، فلذلك اعتادوا على هذه الظواهر ولم يعيروها التأمُّل، مع ما تحمل لهم ولاستقرارهم على الأرض من أهميّة.

كما أن هذه السورة كغيرها من السور التي تأتي على ذكر الظواهر الكونية تريد للإنسان أن ينظر إلى أبعد من أفق ذاته، ولا يحشر نفسه في محدوديتها، وبذلك تكون نظرته شمولية للكون، فيتّسع أفق تفكيره ويكبر.

كما أن التفكر في عظمة الظواهر الكونية "المعلول، المخلوق" يدلُّنا على عظمة موجدها "العلّة، الخالق"، وبذلك تنتعش النفس الإنسانية بالإيمان والتقوى والصلاح والطمأنينة.

2- الذكر والأنثى
السورة المباركة أيضاً تُلفت إلى إزدواجية الحياة الإنسانية، وأن هناك أنثى وذكر، رجل وامرأة، ولكلّ‏ٍ منهما قيمته عند اللَّه، فلولا الرجل ما كانت المرأة، ولولا المرأة ما كان الرجل، ولا عمرت الأرض بسكّانها. فالمرأة والرجل شريكان في هذه الحياة، وعلى كلّ‏ٍ منهما أن يقوم بدوره وأن يأخذ حقّه ويعطي الحق للآخر.

والمراجع للتاريخ يرى أن الإنسانية ظلمت المرأة عند كل مفصل تبتعد فيه عن الرسائل الإلهية.

فمثلاً عند عرب الجاهلية لم يكن للمرأة وزناً، وكانت لا ترث، وزواجها يرجع إلى أمر وليها من دون أن يكون لها حق الاعتراض ولا المشورة، حتى أن الولد يمنع أرملة أبيه من الزواج.

وكانت المرأة تمنع من الزواج إلا من قريبها لوجود حقّ الدم عليها وكانوا يفرحون إذا ولد لهم ولد ذكر، ويغتمون إذا ولد لهم أنثى، إلى حدِّ وأد البنات ودفنها حيّة، كما يذكر القرآن الكريم في عدِّة آيات:﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾(النحل:58).
﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(التكوير:8-9).

ولم ينحصر الظلم بعرب الجاهلية بل حتى بعض الفلاسفة، ظلموا المرأة بآرائهم، يقول الفيلسوف "روسّو": "إن المرأة لم تخلق للعلم ولا للحكمة ولا للتفكير ولا للفن ولا للسياسة، وإنما خلقت لتكون أمّاً تغذي أطفالها بلبنها".

هذا كله بخلاف الإسلام الذي رفع من قيمة المرأة وعرّفها حقيقتها وأكّد مسؤوليتها كما الرجل، في كثير من آيات القرآن، ومنها هذه الآيات:﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى﴾.

كل ذلك يشمل الذكر والأنثى، فكلاهما مسؤول وكلاهما مثاب أو معاقب.

لذلك يقول تعالى مؤكّداً مسؤولية المرأة، وقدرتها على التكامل الإنساني كما الرجل:﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(الأحزاب:35).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى هذه الحقيقة.

3- الهداية والإرادة
فقوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى).

يشير إلى حريّة الإرادة الإنسانية ذكراً كان أو أنثى وكون الإنسان مريداً مختاراً للطريق الذي يسلكه إما التقى فالجنة وإما التكذيب للَّه ورسوله فالنار.

ثم إن قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى).

إشارة إلى أن اللَّه تعالى لم يترك الإنسان دون أن يعطيه سبل الهداية، حيث خلقه عاقلاً مختاراً، وأرسل له الرسل وأنزل الكتب الإلهية، لا سيما خاتم الرسل محمد، وخاتمة الرسالات الإسلام العظيم، والقرآن الحكيم.

*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص15-21.


--------------------------------------------------------------------------------


1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏501.
2- مجمع البيان، ج‏10، ص‏499.

 

 

 

 


سورة الإنشراح

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)".

للحفظ:

1- شرح المفردات:

1- نشرح: نبسط.
2- الوزر: الحمل الثقيل.
3- أنقض: أثقل كسر.
4- العسر: الشدة والضيق.
5- اليسر: الراحة.
6- النصب: التعب.

2- هوية السورة:

نزلت هذه السورة في مكة: عدد آياتها ثمانية.

محتوى السورة وفضيلتها:

المعروف أنّ هذه السورة نزلت بعد سورة "الضحى" ومحتواها يؤيد ذلك، لأنّها تسرد أيضاً قسماً من الهبات الإلهية لرسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

في سورة الضحى عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية، وفي هذه السورة ذكر لثلاث هبات أيضاً غير أن جميعها معنوية. وتدور السورة بشكل عام حول ثلاثة محاور:
الأول: بيان النعم الثلاث.


الثاني: تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته.

والآخر: الترغيب في عبادة اللَّه الواحد الأحد.

ولذلك ورد عن أهل البيت عليهم السلام ما يدّل أنّ هاتين السورتين سورة واحدة كما ذكرنا، ووجب قراءتهما معاً في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

وبشأن مكان نزول السورة، يتبيّن أنها نزلت في مكة، ولكن آية:"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ".

حدت بالبعض إلى الاعتقاد أنّها نزلت في المدينة، حيث ارتفع ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشاع صيته في كل مكان، وليس هذا الدليل بتام، لأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذاع صيته قبل الهجرة رغم كل العقبات والمشاكل وكان الحديث عن دعوته على الألسن في جميع المحافل، كما إن خبر الدعوة انتشر في الحجاز عامة والمدينة خاصة من خلال الوافدين على مكة في موسم الحج.

في فضيلة هذه السورة ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

"من قرأها أعطى من الأجر كمن لقي محمداً مغتماً ففرج عنه"1.

في كنف السورة:

السورة المباركة فيها العديد من الاستفادات منها:

1- شرح الصدر:

مسألة شرح الصدر وردت في العديد من الآيات القرآنية، ففي سورة الأنعام، الآية/125، قال تعالى:

"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء".

وفي سورة النحل، الآية/106، قال تعالى:"وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا".

وفي سورة طه، الآية/25، بخصوص دعاء النبي موسى عليه السلام قال تعالى:"قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي".

وفي سورة الزمر، الآية/22، قال تعالى:"أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ".

وفي هذه السورة (الانشراح):"أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ".

وهنا نقف على بعض استفادات هذه الآيات:

أ- الهداية وشرح الصدر في الإسلام:

فآية الأنعام/125، وآية الزمر/22، تشيران بوضوح أن اللَّه يهدي وينير طريق من شرح صدره للإسلام وآمن بعقيدته (باللَّه تعالى وبالأنبياء ومنهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم واليوم الآخر يوم الجزاء)، أما من شرح صدره للكفر(النحل/106)، وضلّ‏َ عن الإسلام فهو ضيِّق الصدر.

وهذه حقيقة ترونها بوضوح إذا قارنتم بين المسلم الذي شرح صدره للإسلام بكل تعاليمه، وبين الكافر أو المنافق أو الفاسق الذين أقفلوا صدورهم عن الإسلام.

فالصنف الأوّل، منشرح الصدر والعقل، مطمئن الروح، مستقر النفس، والصنف الثاني، ضيق الصدر والفكر، قلق الروح، خائف النفس، وهذه حقيقة لا شك فيها.
ولا نريد أن نأتي بتقارير عن المأزق والضيق الروحي والنفسي والعقلي والحياتي الذي يعيش فيه الصنف الثاني، فالتقارير كثيرة تملأ صفحات الجرائد والمجلات، فهذا يقتل، وذاك ينتحر، وآخر مريض نفسيّاً في المصحّات، إلى آخر الأوبئة الفردية والاجتماعية.

ب- المقصود من "الصدر":

هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيراً، والمقصود من "الشرح" هو اتساع الروح وارتفاع الفكر وانفساح أفق العقل البشري، لأن تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية، مما لا يقدر عليه إلا ذوو الأرواح العالية والأفكار السامية.

ج- معجزة قرآنية علمية:

ثبت اليوم علمياً أن الهواء المحيط بالأرض مضغوط وصالح لتنفس الإنسان، ولكننا


كلما ارتفعنا قلّت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث أننا إذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفّس بسهولة (بغير قناة الأوكسجين)، وإذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا وأصبنا بالاغماء، إن ذكر هذا التشبيه في سورة (الأنعام/125)، وفي زمن نزول القرآن، قبل أن تثبت هذه الحقيقة العلمية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.

د- في خصوص الآية "ألم نشرح لك صدرك" في سورة الانشراح:

بعد أن عرفنا أهمية شرح الصدر للإسلام، ومدى ضرورتها للإنسان المسلم لهدايته وارتقائه الفكري والمعنوي، نعلم مدى أهميّة ذلك للأنبياء والرسل، حيث كلّما كان دور الإنسان أعظم كانت الحاجة إلى شرح الصدر أعظم.

لذلك نرى النبي موسى عليه السلام يدعو ربَّه، عندما أمره بالذهاب إلى فرعون "ربّ‏ِ اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري".

فلا يمكن لقائد كبير أن يجابه العقبات دون انشراح الصدر، ومن كانت رسالته أعظم (كرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الضرورة لشرح صدره أكبر، كي يبلِّغ الناس رسالة اللَّه بفكر واسع، وروح شجاعة صابرة، كي لا تزعزعه الأزمات، ولا تثني عزمه الصعاب، ولا تبعث مكائد الأعداء اليأس في نفسه.

والمتمعن في حياة الأنبياء وخاصة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال:

"ما أوذي نبي مثل ما أوذيت".

يرى مدى تحملهم لأقوامهم وصبرهم على آذاهم.

1- رفع الذكر:

يفهم كثير من الناس الإسلام فهماً خاطئاً، فمثلاً: البعض يحسب أن الإسلام يحبس الإنسان في ذاته، ويكبت طموحاته حتى ولو كانت شريفة، ولا يرضى للإنسان أن يكون مشهوراً بالمطلق، هذه النظرة تنفيها العديد من الآيات ومنها هذه الآية، حيث عدّ اللَّه من النعم على رسول اللَّه "رفع الذكر" الذي يعني الاشتهار بالذكر المرتفع الحسن.


فلا ضير أن يكون المؤمن مشهوراً بالفكر الواسع، والأخلاق الحسنة، والفضائل الكريمة، طالما أنها في رضا اللَّه لا رضا الذّات.

فهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفقير اليتيم أصبح رسول اللَّه، فاسمه مع الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمه باسم اللَّه سبحانه في الآذان يرفع صباح مساء على المآذن، والشهادة برسالته لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللَّه...

وفي الفضائل والمكارم والذكر الحسن فليتنافس المتنافسون.

3- مع العسر يسراً:

هذه الحقيقة ينبغي أن تظل في القلوب، خاصة عند الضيق والمشاكل والمتاعب والفقر، لقد أكّد اللَّه تعالى هذه الحقيقة مرّتين، فلن يبقى الفرد ولا الأمة على حالة الضيق، فإن مع الضيق سعة، ومع الفقر غنى، ومع الشدّة فرج، وهذا ما نتعلمه من حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل الذين كانوا في أشد ضيق، من الحصار الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، فأشرق الفرج من بعد العسر.

فالآية تؤكّد صفة التفاؤل في نفس المؤمن، وتبعد عنه هواجس التشاؤم والقلق.

4- العمل الدائم والاعتماد على اللَّه تعالى:

"فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ".

ذكر المفسرون لتفسير الآيتين معانٍ:

إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع اللَّه واطلب منه ما تريد.
أو عند فراغك من أمور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الرب.
أو عند فراغك من الواجبات توجه إلى المستحبات التي حث اللَّه عليها.
أو عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلى العبادة.
أو عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد نفسك.
أو عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة.
أو كما عن الحسكاني، حيث روى عن الصادق عليه السلام في "شواهد التنزيل" في تفسير الآية: إذا فرغت فانصب علياً بالولاية.

أو كما عن القرطبي في تفسيره حيث روى عن بعضهم أن معنى الآية: إذا فرغت فانصب إماماً يخلفك.

ولكن كل هذه المعاني يجمعها معنى عام، وهدفها أن تحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره قدوة والمسلمين على عدم الخلود إلى الراحة، وتدعوه إلى السعي والعمل الدائم، اعتماداً واتكالاً على اللَّه تعالى.


*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص15-21.
________________________________________

1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏507.

 


سورة القدر

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)".

للحفظ:

1- شرح المفردات:

1- ليلة القدر: هي ليلة يقدِّر اللّه فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم.
2- الروح: مخلوق عظيم يفوق الملائكة1.

2 هوية السورة:

هذه السورة مكية، وآياتها خمسة.

محتوى السورة وفضيلتها:

محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمية هذه الليلة وبركاتها.

وحول مكان نزولها في مكة أو المدينة، المشهور بين المفسرين أنها مكية واحتمل بعضهم أنها مدنية، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى في منامه "بني أمية" يتسلقون منبره، فصعب ذلك على النبي وآلمه، فنزلت سورة القدر تسلية (لذلك قيل إن ألف شهر في السورة هي مدة حكم بني أميَّة). ونعلم أن منبر النبي أقيم في مسجد المدينة لا في مكة2.

لكن المشهور كما قلنا أنها مكية، وقد تكون الرواية من قبيل التطبيق لا سبباً في النزول. ويكفي في فضيلة تلاوتها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

"من قرأها أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر"3.

وعن الإمام محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال:

"من قرأ إنا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه، ومن قرأها سراً كان كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه"4.

وواضح إن كل هذه الفضائل في التلاوة تزداد وتتأكد لمن يقرأها ويفهمها ويعمل بها... من يقدر القرآن حق قدره ويطبق آياته في حياته.

في كنف السورة:

1- ليلة القدر والقدر:

في الإسلام العظيم اهتمام ببعض الأمكنة والأزمنة، فلقد جعل بعضها مباركة وفيها خصوصية عن غيرها، فمثلاً بارك المسجد الحرام والكعبة المكرمة والمسجد الأقصى إلى غير ذلك من الأمكنة، وبارك شهر رمضان وجلّل الأشهر الحرم (ذي القعدة ذي الحجة رجب محرّم) وبارك ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن العظيم:"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ".

2- وجه التسمية بليلة القدر:

أما بخصوص تسميتها بليلة القدر فقد قيل الكثير في ذلك:

أ- سميت بالقدر لقدر منزلتها وعلو شرفها.
ب- لأن القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الملك العظيم في هذه الليلة.
ج- إنها الليلة التي قدِّر فيها نزول القرآن.

د- إنها الليلة التي من أحياها نال قدراً ومنزلة.
ه- إنها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم، لأن القدر جاء بمعنى الضيق، كما في قوله تعالى:"وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ " 5.

و- وهو التفسير الأشهر: إنها الليلة التي تعين فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، كما يشهد لذلك قوله تعالى:

"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ "6.

وقد ورد في بعض الروايات: في هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأمور أخرى تفرق وتبين في تلك الليلة المباركة.

وهنا يجرُّنا الحديث إلى معنى القدر:

1- معنى القَدَرْ:

فهل تعني مسألة "القدر" الجبر، كما يرى الجبريون أن الإنسان في أعماله وأقواله وسلوكه ليس مختاراً، أو أن المسألة على العكس من ذلك كما يرى المفوِّضون، حيث يعتقدون بالتفويض أي أن اللَّه خلقنا وترك كل شي‏ء بيدنا، ولا يعود أي دخل له في أعمالنا، وبناء على ذلك يكون لنا الحرية الكاملة والاستقلال التام فيما نفعل بلا منازع.

أو أن المسألة ليست جبراً ولا تفويضاً، الصحيح الذي ينسجم مع عدالة اللَّه تعالى والإيمان بتوحيده هو هذا، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:"لا جبر ولا تفويض إنما أمر بين أمرين".

وفي ذلك كلام موسَّع نتركه لدروس العقائد، ولكن المسألة المهمّة التي ينبغي طرحها هنا، أن كثيراً من الغربيين استغل قضية "القضاء والقدر" واعتبر أن الاعتقاد بهذه المسألة هي إحدى العلل بل العلّة الأساس في انحطاط المسلمين.

يقول "واشنطن أروفك" في كتابه حياة محمد: "... وقد عدّ بعض المسلمين مذهب

الجبر القائل بأن الإنسان غير مختار في اجتنابه المعاصي وخلاصه من الجزاء، فلا إرادة له في هذا المجال، عدوّه منافياً للعدل والرحمة الإلهيين، كما وجدت فرق تسعى لتعديل هذا المذهب المحيِّر... وهل هناك عقيدة أفضل من هذه العقيدة تستطيع أن تحرِّك الجنود... ولكن هذه العقيدة كانت تحمل في نفس الوقت سمَّها الزعاف الذي قتل النفوذ الإسلامي..."7.

ويقول ديورانت: "وهذا الإيمان بالقضاء والقدر جعل الجبريّة من المظاهر الواضحة في التفكير الإسلامي... وبفضل هذه العقيدة لاقى المؤمنون أشد صعاب الحياة بجنان ثابت، ولكنها أيضاً كانت من الأسباب التي عاقت تقدُّم العرب وعطلت تفكيرهم في القرون المتأخرة"8.

ولكن نقول أن كلامهم صحيح على القول بالجبرية9، أما من يعتقد اعتقاد أهل البيت عليهم السلام فإنه لا يرد عليه مثل هذا الإشكال.

2- اللَّه لم يقطع الصلة بخلقه (المدد الغيبي):

هذا وفي سورة القدر تأكيد على أن اللَّه تعالى لم يخلق الخلق ويتركهم، إنما هناك تواصل بين السماء والأرض، حيث تتنزل الملائكة إلى الأرض ويطّلعون على أحوال الناس، وهذا تسلية لقلوب المؤمنين، فليس الأمر كما قال المفوِّضة، أو كما قال اليهود:

"وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ..." 10.
والآيات في الكتاب الكريم كثيرة، التي تؤكد على أن اللَّه عليم بخلقه.

يقول تعالى:"وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" 11.

"أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ" 12.

"وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " 13.
"وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " 14.

إلى غير ذلك الكثير من الآيات التي تؤكد أن اللَّه مطلع على شؤون خلقه، ولم يتركهم، وهذا ما يؤكده الأمر بالدعاء:

"ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" 15.
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ..." 16.
"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ" 17.

وورد في الحديث:

"إذا دعوت فظن حاجتك بالباب"18.
وورد في دعاء زين العابدين عليه السلام: اللهم إني أجد سبل المطالب إليك مشرعة، ومناهل الرجاء لديك مترعة، والاستعانة بفضلك لمن أمّلك مباحة، وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة، واعلم أنك للراجين بموضع إجابة، وللملهوفين بمرصد إغاثة)19.

 


*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص15-21.

________________________________________
1- وقيل أنه جبرائيل.
2- روح المعاني، ج‏30، ص‏188 و«الدر المنثور»، ج‏6، ص‏371.
3- مجمع البيان، ج‏10، ص‏516.
4- مجمع البيان، ج‏10، ص‏516.
5- سورة الطلاق، الآية/7.
6- سورة الدخان، الآيتان/4 3.
7- الإنسان والقضاء والقدر، مطهري، ص‏16.
8- قصة الحضارة، ول ديورانت، ج‏13، ص‏5.
9- وهو اعتقاد السنّة المتبعين لمذهب الأشاعرة القائل بالجبر.
10- سورة المائدة، الآية/64.
11- سورة البقرة، الآية/235.
12- سورة البقرة، الآية/77.
13- سورة لقمان، الآية/34.
14- سورة الحجرات، الآية/16.
15- سورة غافر، الآية/60.
16- سورة البقرة، الآية/186.
17- سورة النمل، الآية/62.
18- الكافي، باب اليقيني في الدعاء، ج‏2، ح‏1، ص‏473.
19- دعاء أبي حمزة الثمالي(راجع: مفاتيح الجنان: أعمال أسحار شهر رمضان) وللدعاء شروطه وفلسفته، والحديث عن ذلك له مكانه.

 

 

 

 

افتراضي سورة القارعة
سورة القارعة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)﴾.

للحفظ:

1- شرح المفردات:

1- القارعة: من القرع وهو الطرق الشديد مع إحداث صوت شديد.
2- الفراش: جمع فراشة وهي الحشرة المعروفة.
3- المبثوث: المتفرق المنتشر.
4- العهن: الصوف المصبوغ.
5- المنفوش: المنثور.
6- موازين: جمع ميزان وهي وسيلة لوزن الأجسام.
7- أمه: ماواه وملجأه.
8- هاوية: جهنم.

2- هوية السورة:

نزلت هذه السورة في مكة المكرمة وعدد آياتها إحدى عشرة آية.

محتوى السورة وفضيلتها:

تتناول هذه السورة بشكل عام، المعاد، ومقدماته، بتعابير حادة، وبيان مؤثر. وإنذار صريح وواضح، حيث تصنف الناس يوم القيامة، إلى صنفين أو جماعتين: جماعه تكون أعمالها ثقيلة في ميزان العدل الإلهي فتحظى جزاءً بذلك، حياةً راضية سعيدة في جوار الرحمة الإلهية، وجماعه أعمالها خفيفة الوزن، فتعيش في نار جهنم الحادة المحرقة.

وقد اشتق اسم هذه السورة، أي "القارعة" من الآية الأولى فيها وفي فضيلتها يكفي أن نقرأ الحديث الشريف المروي عن الإمام الباقر عليه السلام:

"من قرأ القارعة آمنه اللّه من فتنة الدجال أن يؤمن به، ومن قيح جهنم يوم القيامة إن شاء اللّه"1.

في كنف السورة:

1- القرآن واليوم الآخر:

السورة المباركة ككثير من سور القرآن تتحدّث عن مشاهد من يوم القيامة، ولو أجلت بصرك في القرآن العظيم لرأيت مدى اهتمامه بقضية اليوم الآخر.

فلقد كُرِّرت الأمور التي تتعلق باليوم الآخر كثيراً، فمثلاً يوم القيامة كُرِّر تقريباً 70 مرّة، اليوم الآخر 26 مرّة، الآخرة والدار الآخرة 117 مرّة، جنّة وجنّات 141 مرّة، جهنم 77 مرّة، إلى غير ذلك.

ولقد عني القرآن العظيم بمشاهد القيامة: البعث والحساب، النعيم والعذاب، حتى عاد اليوم الآخر من خلال بلاغة القرآن مصوّراً محسوساً، وحيّاً متحركاً، وبارزاً شاخصاً، وعاش المسلمون في هذا العالم عيشة كاملة: رأوا مشاهده، وتأثّروا بها، وخفقت قلوبهم واقشعرت جلودهم وسرى في نفوسهم الفزع مرّة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولفحهم من النار شواظ، ورفّ إليهم من النار نسيم، فأصبحوا


والنار كمن قد رأوها فهم فيها معذّبون، وباتوا والجنة كمن قد عاينها فهم فيهم منعمون.

وما اهتمام القرآن باليوم الآخر إلا لما يحمله الإيمان باليوم الآخر من أهميّة لحياة الأمم والأفراد، حتى أن القرآن الكريم قرن كثيراً بين الإيمان باللَّه واليوم الآخر، مما يشير إلى أن الإيمان باللَّه لا يكفي الإنسان (الفرد والأمة) في كماله الروحي وسكينته النفسية وصلاحه الأخلاقي والسلوكي، ما لم يكن يقترن بالإيمان باليوم الآخر.

قول القرآن الكريم:

﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ 2.

﴿يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ 3.

إلى كثير من الآيات التي تقرن الإيمان باللَّه مع الإيمان باليوم الآخر.

2- اليوم الآخر اعتقاد غالب البشرية:

إن المراجع للتاريخ الإنساني، من البدائيين إلى السومريين إلى البابليين إلى الآشوريين فالمصريين فالهنود فالصينيين فاليابانيين فاليونانيين فالرومانيين فالفرس، إلى أن يأتي إلى اليهودية والمسيحية وبالطبع الإسلام، يرى بوضوح أن البشرية تؤمن بيوم آخر، وإن اختلفت في التفاصيل، وهنا نأتي على ذكر المسيحية في هذا المجال كمثال على اهتمام البشرية بموضوع اليوم الآخر.

3- المسيحية واليوم الآخر:

لا شك في اعتقاد المسيحية باليوم الآخر فعندها "ملكوت الرب" "والحياة الأبدية"

للنعيم. وعندها جهنم والنار، و"الظلمة" للعذاب. وهناك "يوم الدين" يوم يأتي ابن الإنسان (المسيح) مع ملائكة اللَّه. وهنا نورد بعضاً مما جاء في العهد الجديد:

جاء في الاصحاح 16 من انجيل متى "فإن ابن الإنسان سوف يأتي... مع ملائكته (اللَّه)، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم...".

وجاء في الاصحاح 12: "أقول لكم: إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين". إلى غير ذلك، إلا أنه لا يقارن بعدد ما ورد في القرآن ولا ببلاغته.

4- الثواب والعقاب:

ورد الكثير في القرآن الكريم حول الثواب والعقاب في اليوم الآخر، ومما ورد ما في هذه السورة المباركة:

﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)﴾.

ولكن هنا ملاحظة:

صحيح أن الإيمان بالآخرة وبالتالي الثواب والعقاب فيها مهم وأساسي ولكن إذا لم يتبعه أمور تعطِّل فعالية هذا الإيمان.

فمثلاً المسيحية تؤمن بالثواب والعقاب، إلا أنه دخلت أمور عطّلت هذا القانون الإلهي العادل.

من هذه الأمور مسألة "صلب المسيح" وأنه صُلب ليفدي النّاس من الخطيئة، أو مسألة "الاعتراف عند الكاهن" بحيث إذا اعترف المذنب تغفر ذنوبه، أو مسألة "المسح الأخير" حيث يستمع القس إلى اعترافات المسيحي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويمنحه المغفرة التي تنجيه من النار، ويمسحه حتى يطهر من الخطيئة وتصبح مستعدة للبعث أمام الحكم العدل، إلى غير ذلك من المسائل.

هذه المسائل تعطِّل قانون الثواب والعقاب، وتشجِّع الناس على الخطيئة، وهذا ما نراه في المجتمع المسيحي، أما الإسلام فليس عنده هذه الأمور ولا يؤمن بها، نعم عنده


التوبة والغفران من اللَّه والشفاعة، ولكن هذه لا تشبه تلك وإن كان هناك أناس يفهمونها خطأً، حيث يدخل الشيطان وتزييناته والنفس وهواها لكي يسوّف الإنسان بالتوبة إلى آخر العمر، مع أن التوبة في آخر العمر وعند تراكم الذنوب أمر صعب.

وحيث يمنِّى الإنسان نفسه بشفاعة الشافعين في حين أنه لم يعرف حقيقة الشفاعة.

ألا تعرف أنه قد لا تشملك شفاعتهم "عليهم السلام" لأن الانغمار في المعاصي يجعل القلب بالتدريج مظلماً ومنكوساً وربما يصل الإنسان إلى الكفر، والكافر لا شفاعة له.

ثم ألا تعلم أنه إذا كانت أثقال الذنوب كثيرة يمكن ألا يشفع الشافعون لك في البرزخ والقبر، ويمكن أن لا تصل شفاعتهم في يوم القيامة إلا بعد مدّة طويلة، كما ورد في بعض الأحاديث.

ولا تستمع للشيطان ونفسك الأمارة حيث توعد بالرحمة الواسعة والمغفرة الكريمة لأرحم الراحمين، فتتهاون وتنزلق في المعاصي، في حين أن اللَّه رحيم في موضع الرحمة وشديد العقاب في موضع الشدّة، فليس صحيحاً أن ترجو رحمة اللَّه فحسب دون أن تخافه وتخشى عقابه، وكما نقرأ في دعاء الإفتتاح:

"أيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موقع النكال والنقمة".

فإذن ينبغي فهم مسألة التوبة وغفران اللَّه ورحمته والشفاعة والاستغفار فهماً صحيحاً، وإلا كانت الآخرة والثواب والعقاب لا أثر له.

 

*في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص 41 - 45.

________________________________________
هوامش
1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏530.
2- سورة البقرة، الآية/232.
3- سورة آل عمران، الآية/114.
4- عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: يهرم بني آدم ويبقى معه اثنتان الحرص والأمل، الخصال، ج‏1، ص‏73.
5- روى الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير. من تاب قبل موته بجمعة، قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الجمعة لكثير. من تاب قبل موته بيوم، قبل اللّه توبته. ثم قال: إن اليوم لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل اللّه توبته أصول الكافي، ج‏2، ص‏44.

 

 

 

 

سورة التكاثر

بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾.

للحفظ:

1- شرح المفردات:

1- ألهاكم: الإلهاء الصرف إلى اللهو، واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى.
2- التكاثر: التفاخر والمباهاة.
3- اليقين: العلم الخالي من الشك.
4- عين اليقين: محض اليقين.

2- هوية السورة:

هذه السورة مكية وآياتها ثمانية.

محتوى السورة وفضيلتها:

يعتقد كثير من المفكرين أن هذه السورة نزلت في مكة وما فيها من ذكر للتفاخر والتكاثر، إنما يرتبط بقبائل قريش التي كانت تتباهى على بعضها بأمور وهمية.

وبعضهم كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان يرى أنها مدنية، وما فيها من ذكر للتفاخر قد ورد بشأن اليهود، أو طائفتين من الأنصار. لكن مكيتها أصح لشبهها الكبير بالسور المكية، هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم، استناداً إلى


مسائل موهومة وتذم ذلك وتلومهم عليه ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم ومما سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منّ‏َ اللَّه بها عليهم، اسم السورة... من الآية الأولى فيها.

وفي فضيلة تلاوتها ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

"من قرأها لم يحاسبه اللَّه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية"1.

في كنف السورة:

السورة المباركة فيها مواعظ جليلة تستأهل منّا التوقف عندها والتأمل فيها:

1- الإنسان وغفلته عما بعد الدُّنيا (الإنسان اللاهي والمتكاثر):

لقد ورد الكثير من الآيات في القرآن الكريم تشير إلى أن كثيراً من الناس يعيشون الغفلة عن الآخرة ويستغرقون في الدنيا وغرورها، بحيث يذوبون فيها، فلا ينظرون إلا إليها، فتعمهم عن الحقيقة التي تفيد أن الدنيا ليست نهاية المطاف، إنما هي قنطرة يعبرها الإنسان إلى عالم آخر.

ومن الآيات المعبِّرة التي تشير إلى هذه الحقيقة:

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ 2.

هذه الآية الكريمة تؤكِّد حقيقة غفلة الإنسان عبر مراحل عمره الخمسة.

حيث في البداية مرحلة الطفولة، والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من الغفلة والجهل واللعب.

ثم مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب، وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثاً وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدية.

والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والحب والعشق والزينة.


وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تنبعث في نفسه إحساسات علو المقام والتفاخر.

وأخيراً يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك.

فنرى أن الإنسان غالباً إلا من رحم اللَّه، يعيش الغفلة في مراحل عمره كلها، ولا يترك للَّه تعالى، ولمعرفة حقائق الوجود، وللتفكير بالمصير النهائي للوجود، أي مجالٍ وأي فسحة.

والآية التي نحن بصدد تفسيرها تعيش في هذا الجو:

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ َُ﴾

وهي تشير أكثر ما تشير إلى المرحلة الخامسة من عمر الإنسان حيث يلهيه جمع الأموال والأولاد والتفاخر بالأنساب والأقوام. ولقد عُرف عن العرب أنهم كانوا يتفاخرون بالأموال والأنساب، ويؤسّسون حياتهم على أسس قبلية، وهذه الآية كأمثالها تريد أن تخرج من النفوس هذه العصبية القبلية، والتفاخر بها وبالحطام.

وهنا لفتة مهمّة من الآية الكريمة، تشير إلى أن الإنسان يستيقظ من غفلته إما حين موته:

﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ 3.

وإما حين زيارته للمقابر حيث يتذكّر أنه سيموت يوماً ما، فيستيقظ من غفلته شيئاً ما، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

"اذكروا هادم اللذات" أي الموت.

وقد احتمل المفسرون معنيين:

1- إنكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أنفس قبيلتكم.

 

2- إنكم انشغلتم بالتكاثر والتفاخر حتى لحظة موتكم وورودكم إلى المقابر.

وللإمام علي عليه السلام كلام بعد أن تلا:

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ َُ﴾.

قال:

"يا له أمر ما أبعده، وزوراً ما أغفله، وخطراً ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أي مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون؟ أو بعديد الهلكى يتكاثرون؟ ترتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً"4.

فالموت خير واعظ لمن يتعظ، ومن هنا ورد استحباب زيارة القبور، عسى أن يقوم الإنسان من سكر الغفلة، غفلة الدنيا والاستكثار بالأموال والأولاد، والتفاخر بالأحساب والأنساب.

2- إشارة إلى عذاب القبر:

﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾.

ورد العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تشير إلى أن الإنسان لا يصبح عدماً بعد موته، بل له حياة أخرى بعد الموت، إنها حياة البرزخ، ومن هذه الآيات:

﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ 5.

وذهب بعض المفسرين أن:

﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.

الأولى إشارة إلى عذاب القبر والبرزخ، والثانية إلى عذاب القيامة.

في التفسير الكبير للفخر الرازي عن زر بن حبيش قال: كنا في شك من عذاب القبر حتى سألنا علياً فأخبرنا أن هذه الآية دليل على عذاب القبر.


3- مراتب اليقين:

من الواضح أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة من الإيمان بل البعض منهم لا يطلق عليهم إلا الإسلام وما آمنت قلوبهم:

﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...﴾ 6.

ولذلك ورد العديد من الروايات التي تشير إلى هذه الحقيقة، فقد جعل الإمام الباقر عليه السلام الإيمان أعلى من الإسلام درجة، والتقوى أعلى من الإيمان درجة، واليقين أعلى من التقوى درجة، ثم يقول:

"ولم يقسم بين الناس شي‏ء أقل من اليقين".

ورغم ما يستفاد من الروايات أن اليقين هو أعلى مراحل الإيمان، فإن له مراتب، وهي ثلاث:

1- علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.

2- عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلاً النار.

3- حق اليقين ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ 7: وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحس بحرقتها، وهذه أعلى مراحل اليقين.

4- السؤال عن النعيم: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ 8: قيل أن النعيم المسؤول عنه وهو نعمة السلامة، وفراغ البال، وقيل: أنه الصحة والسلامة والأمن.

وقيل: الآية تشمل كل هذه النعم.

وروي أن أبا حنيفة سأل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير هذه الآية فقال عليه السلام: ما النعيم عندك يا نعمان؟

قال: القوت من الطعام والماء البارد.


فقال عليه السلام:

"لئن أوقفك اللَّه يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه قال فما النعيم جعلت فداك قال نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم اللَّه بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف اللَّه بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم اللَّه للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع واللَّه سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم اللَّه به عليهم وهو النبي صلى الله عليه وآله وعترته وسلم"9.

من كل هذه الروايات التي يبدو أنها مختلفة في ظاهرها نفهم أن النعيم له معنى واسع جداً يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية لأهل البيت عليهم السلام، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعي:

﴿قِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ 10.

 


هوامش
1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏532.
2- سورة الحديد، الآية/20.
3- سورة ق، الآيات/22 19.
4- نهج البلاغة، الخطبة 221.
5- سورة المؤمنون، الآيتان/100 99.
6- سورة الحجرات، الآية/14.
7- سورة الواقعة، الآية/95.
8- سورة التكاثر، الآية/8.
9- مجمع البيان، ج‏10، ص‏535.
10- سورة الصافات، الآية/24.

 

 


سورة العصر

 


بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾.

صدق الله العظيم


للحفظ

1- شرح المفردات:

1- العصر: هو الطرف الأخير من النهار أو هو الزمان.
2- الخاسرون: الخائبون.
3- الحق: ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة.

2- هوية السورة:

نزلت هذه السورة في مكة، عدد آياتها ثلاثة.

محتوى السورة وفضيلتها:

المعروف أن هذه السورة مكية واحتمل بعضهم أنها مدنية ويشهد على مكيتها لحنها ومقاطعها القصيرة.

بلغت شمولية هذه السورة درجة حدت ببعض المفسرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه بعبارة أخرى: هذه السورة رغم قصيرها تقدم المنهج الجامع والكامل لسعادة الإنسان تبدأ السورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. وسيأتي تفسيره.

ثم تتحدث عن خُسران كل أبناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية ثم أستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي ذات منهج له أربع مواد: الإيمان،

والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وهذه الأصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والاجتماعي للإسلام.

في فضيلة هذه السورة ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

"من قرأ "والعصر" في نوافله بعثه اللَّه يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنه، قريرة عينه حتى يدخل الجنة"1.

وواضح أن كل هذه الفضيلة وهذه البشرى نصيب من طبّق الأصول الأربعة المذكورة في حياته، لا أن يقنع فقط بقراءتها.

في كنف السورة:

1- العصر وأهميَّة الزمن:

العصر في الأصل الضغط، وإنما أطلق على وقت معين من النهار لأن الأعمال فيه مضغوطة، ثم أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زمني معين، كأن نقول عصر الجاهلية أو عصر الإسلام. ولذلك ذكر المفسرون في معنى العصر احتمالات كثيرة:

1- قيل: إنه وقت العصر من النهار.
2- إنه كل الزمان وتاريخ البشرية المملوء بالدروس والعبر.
3- إنه مقطع خاص من الزمن مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه.
4- بعضهم أرجعها إلى أصلها اللغوي وقال: بأن القسم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكره باللَّه سبحانه، وتربي فيه الاستقامة.
5- وقيل: أنها إشارة إلى "الإنسان الكامل" الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.

6- وقيل: إن الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصة بين بقية الصلوات، لأنها الصلاة الوسطى التي أمر اللَّه أن يحافظ عليها.

ومهما يكن من شي‏ء، فإن اللَّه سبحانه وتعالى يقسم كثيراً بالزمان، كما في قوله تعالى:

﴿وَالضُّحَى﴾.

في سورة الضحى، الآية/2.

وفي قوله تعالى:

﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾.

في سورة المدثر، الآية/34.

وما تلك الأقسام بالزمان إلا للإشارة إلى أهميَّة الزمان والعُمر في حياة الإنسان، فعليه أن يعرف جيّداً كيف يستغل عمره في الانتفاع لدنياه وآخرته، ولا يقتله في مضرّة دنياه وآخرته. وإذا تطلّع الإنسان إلى الزمان الذي يعيشه لرآه قصيراً جدّاً، إلا أن غفلة الإنسان عن الآخرة، توهمه أنه سيعيش إلى الأبد.

لو عرف الإنسان كيف تتبدّل خلايا جسده، وكيف يستهلك كل يوم آلاف الخلايا من مخه، دون أن يستعيض عنها شيئاً، وكيف يتسارع ما حوله من أشياء في سبيل الفناء.

لو عرف الإنسان أن عمره بالقياس إلى عمر الأرض التي يعيش عليها اليوم يكاد لا يكون شيئاً مذكوراً.

ولو عرف أن العمر الذي فات لا يعود، فما فات فات، واليوم الذي أنت فيه سيفوت.

ولو عرف أنه مسؤول عن هذا العمر الذي سيعيشه:

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ 2.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل اللّه (عز وجل) عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت"3.

لو عرف كل ذلك، لاستغل كلّ‏َ ثانية بل كل جزء ثانية في رضا اللَّه تعالى، ولما خسر عمره.

2- طول الأمل وخسران العمر:

من المناسب هنا الحديث عن طول الأمل لارتباطه بخسران العمر، لأن من يطول أمله ويحسب أنه سيعيش طويلاً سيقع بالتقصير في العمل فيخسر عمره.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"إنما أخاف عليكم اثنتين: اتباع الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة"4.

ومما يشير إلى خطورة طول الأمل، كون هذه الصفة من صفات الكافرين، يقول تعالى واصفاً لليهود:

﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ 5.

وقد أوصى أولياء اللَّه بقصر الأمل، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

"إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك يا عبد اللَّه لا تدري ما اسمك غداً"6.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما سمع أن أسامة اشترى شيئاً بمائة دينار إلى شهر:

"إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده! ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفريّ‏َ لا يلتقيان حتى يقبض اللَّه روحي، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعة حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم: إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إن ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين"7.

ومما يعالج طول الأمل ذكر الموت الايجابي، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

"أكثروا هادم اللذات".

قيل: وما هو يا رسول اللَّه؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

"الموت، فما ذكره عبد على الحقيقة في منعة إلا ضاقت عليه الدنيا، ولا في شدّة إلا اتسعت عليه"8.

وفي ذكر الموت الايجابي أحاديث كثيرة.

"اللهم إني أسألك التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور والاستعداد للموت قبل حلول الفوت"9.


3- حتى لا تكون من الخاسرين:

إن السعادة الأخروية (والدنيوية طبعاً) هي في الإيمان باللَّه وبأنبيائه ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه واليوم الآخر والثواب والعقاب، ليس الإيمان فحسب، بل العمل الصالح أيضاً.

لذلك يقول تعالى في سورة أخرى:

﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ 10.

جاء في تفسير مجمع البيان وتفاسير أخرى، أن المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيهم قد بعث قبل نبي الإسلام وأن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأن نبيهم هو خاتم الأنبياء عليهم السلام، وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها.

وفي رواية أخرى:

أن اليهود كانوا يدّعون أنهم هم شعب اللَّه المختار، وأن نار جهنم لا تمسهم إلا أياماً معدودة كما ورد في سورة البقرة، الآية/80:

﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ...﴾.

وأن المسلمين كانوا يقولون، ردّاً على اليهود أنهم هم خير الأمم، لأن اللَّه قال في شأنهم:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...﴾ 11.

ولذلك نزلت الآيتان 124 / 123 من سورة النساء، ودحضت كل تلك الدّعاوى وحدّدت قيمة كل شخص بما يقوم به.

فليست قيمتك أيها المسلم في أنك تنتمي إلى الإسلام على المستوى الإسمي فحسب، إنما قيمتك عند اللَّه فيما تعمل في هذه الحياة وتلتزم وتطبق من هذا الإسلام العزيز.

 

 

 

في كنف الوحي، إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية، طـ1 ،ايلول2004م ، ص 57 - 64.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ

هوامش
1- مجمع البيان، ج‏10، ص‏545.
2- سورة الصافات، الآية/24.
3- بحار الأنوار، ج‏7، ص‏258.
4- أصول الكافي، حج‏2، الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح‏3.
5- سورة البقرة، الآية/96.
6- جامع السعادات، النراقي، مج‏3، ص‏35.
7- ن.م.
8- ن.م، ص‏38.
9- مفاتيح الجنان، دعاء ليلة 27 من شهر رمضان.
10- سورة النساء، الآيتان/124 123.
11- سورة آل عمران، الآية/110.
12- روضة الكافي، ص‏79، الحديث 33.

 

 

 

مهدي
6544قراءة
2016-01-20 17:34:31

تعليقات الزوار


H@ss@n @l @w@d