أسرار العبادة وتجسُّم الأعمال
إنّ فهم القلب لأهمّية العبادات لا يتيسّر إلّا عند استيعاب أسرارها وحقائقها.
إنّ لكلٍّ من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة ملكوتية باطنية، وأثر في قلب العابد، والصورة الباطنية هي الّتي تعمّر عالم البرزخ والجنّة الجسمانية.
والأخبار الدالّة على تجسُّم الأعمال وتلبُّسها بصور غيبية، متعدِّدة، نذكر منها:
عن الإمام الصادق (ع): "من صلّى المفروضات في أوّل وقتها وأقام حدودها، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول: حفظك الله كما حفظتني استودَعَني ملك كريم. ومن صلّاها بعد وقتها من غير علّة ولم يقم حدودها، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيّعتني ضيّعك الله كما ضيّعتني ولا رعاك الله كما لم ترعني".
فلكلّ عمل مقبول لدى الله تعالى صورة بهية حسنة تتناسب معه من الحور، أو القصور، أو الجنان العالية، أو الأنهار الجارية، وقد ورد في بعض الروايات تجسّد الاعتقادات أيضاً.
العبادة وحضور القلب
إنّ حضور القلب هو روح العبادة، والعبادة من دون حضور القلب غير مجدية، ولا تقع مقبولة في ساحة الحقّ المتعالي،
وما يبعث على حضور القلب أمران:
الأوّل: إفهام القلب أهمّية العبادة؛ فإنّ الإنسان إذا اقتنع أنّ العبادة أكثر أهمّية من الأمور الأخرى، لالتفت إليها أكثر وخصّص لها وقتاً وحافظ على أوقاتها. فالّذي لا يعرف أهمّية الصلاة ويراها أمراً زائداً، سيؤجّل صلاته إلى آخر الوقت، ويأتي بها بكلّ فتور ونقص.
الثاني: تفريغ الوقت والقلب للعبادة:
- تفريغ الوقت: لا بدّ للإنسان المتعبِّد أن يوظِّف وقتاً للعبادة، وأن يحافظ على أوقات الصلاة الّتي هي أهمّ العبادات، وأن يؤدّيها في وقت الفضيلة، ولا يُشغل نفسه في تلك الأوقات بعمل آخر.
- تفريغ القلب: والأهمّ من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، فعلى الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة أن يجرّد نفسه من هموم الدنيا ومشاغلها، ويبعد قلبه عن الأوهام المتشتّتة والأمور المختلفة، ويفرّغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه بشكل كامل للتوجّه للعبادة والمناجاة مع الحقّ المتعالي.
يجب على الإنسان أن يلجم خياله ويسيطر عليه بشكل تدريجي، فيراقب نفسه، ويمنع خياله من الإفلات، وبعد فترة سيدجّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتّت.
عن الإمام الصادق (ع): "لأُحب للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يُقبِل بقلبه إلى الله ولا يُشغل قلبه بأمر الدنيا، فليس من عبد يُقبل بقلبه في صلاته إلى الله تعالى إلّا أقبل الله إليه بوجهه وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبّة بعد حبّ الله إيّاه".
تلخيص درس العبادة 2
مراتب حضور القلب
يقول أهل المعرفة: العبادات بأسرها، ثناء للمعبود، ولكن كلّ منها ثناء للحقّ سبحانه بواسطة نعت من النعوت واسم من الأسماء، إلّا الصلاة فإنّها ثناء للحقّ سبحانه مع جميع الأسماء والصفات.
وقد ذكرنا فيما سبق أنّ ثناء المعبود والخضوع للكامل والجميل والمنعِم والعظيم المطلق، من الفطرة الّتي جُبل عليها جميع الناس، وباعتبار أنّ الثناء متوقِّف على معرفة الذّات والصفات للمنعِم من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كيفية ارتباط عالَم الغيب بعالَم الشهادة، وعالَم الشهادة بعالَم الغيب غير متيسّر لأيّ شخص إلّا عن طريق الوحي والإلهام الإلهي، صارت العبادات بشكل عام توقيفية، وبيد الحقّ تعالى، ولا يحقّ لأحد أن يُشرِّع من عنده، ويبتدع عبادة على مزاجه، ولا يمكن قياس التواضع والخضوع المعهود أمام السلاطين والزعماء بما ينبغي أمام عظمة ساحة قدس ربِّ العالمين.
حضور القلب في العبادة
إنّ حضور القلب في العبادة له مراتب، عمدتها وأساسها مرتبتان اثنتان:
إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً: فالإنسان لدى إنجازه لعبادة - مهما كانت هذه العبادة، كالوضوء أو الصلاة أو الصيام أو الحج... - يعرف إجمالاً إنّه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته بتفاصيل هذا الثناء، أو أيّ اسم من أسماء الحقّ يدعو. كما لو أنّ شخصاً يُنظِّم قصيدة في مدح أحد ثمّ يُعطيها لطفل ليُلقيها أمام الممدوح، فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً أنّه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه ولمعاني الكلمات الّتي يتلوها.
ثانيهما: حضور القلب في العبادة بصورة تفصيلية: إنّ المرتبة الكاملة من هذا الحضور القلبي غير متيسّرة إلّا للخلّص من أولياء الله وأهل معرفته. ولكن بعض مراتبها الدانية متيسّرة الحصول للآخرين.
فالمرتبة الأولى: منها هي الالتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء.
والمرتبة الثانية: أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كلٍّ من الأوضاع والأحوال.
إنّ أهل المعرفة قد بيّنوا شيئاً قليلاً من أسرار الصلاة والعبادات الأخرى، واستفادوا حسب الإمكان من أخبار المعصومين عليهم السلام.
التفرُّغ في العبادة يوجب الغنى في القلب:
إنّ الغنى هو من الصفات الكمالية للباطن والنفس والذّات، لذلك يعتبر الغنى من الصفات الذّاتية للحقّ تعالى.
إنّ الثروة والأموال لا توجب غنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إنّ من لا يملك غنى في النفس يكون حرصه تجاه المال والثراء أكثر، وحاجته أشدّ.
ولمّا لم يكن أحد غنيّاً حقيقياً أمام ساحة الحقّ جلّ جلاله الغنيّ بالذّات، وكانت الموجودات كلّها بجميع مراتبها ودرجاتها، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلّما كان تعلُّق القلب إلى غير الحقّ، وتوجُّه الباطن نحو تعمير الملك والدنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر، على جميع المستويات:
أمّا الحاجة القلبية والفقر الروحي، فواضح جدّاً، لأنّ نفس التعلُّق بتلك الأمور والتوجُّه إليها هو فقر.
وأمّا الحاجة الخارجية الّتي تؤكِّد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضاً أكثر، لأنّ أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا بمظهر الغنى، ولكن بالتمعُّن يتبيّن أنّ حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.
وسينتج عن ذلك كلّه غبار الذلّ والمسكنة وظلام الهوان والحاجة، وفي الحديث "إن لا تفرغ لعبادتي أملأُ قلبك شغلاً بالدنيا ثمّ لا أسدّ فاقتك وأكلك إلى طلبك".
وعكس ذلك من وضع تحت قدميه التعلُّق بالدنيا، فإنّه سيحوّل وجه قلبه إلى الغني المطلق، ويؤمن أنّ كلّ تلك الموجودات لها فقر ذاتي وحاجة أبدية، لا تملك لنفسها شيئاً.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾2.
وهكذا سيزداد غنى كلّما استغنى عن العالمين أكثر، حتّى يبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لملك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها.
يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس:
"وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها"3.
عندما يُعطي الإنسان قلبه إلى صاحبه الحقيقي ويُعرض عن غيره ولا يُسلِّم هذا القلب للغاصبين، سيتجلّى فيه صاحبه الغني المطلق، ليدفع هذا القلب نحو الغنى المطلق، فيغرق القلب في بحر العزّة والغنى.
﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
وسيوصد باب الفقر لدى العبد نهائياً ليستغني عن العالمين، كما في الحديث القدسي:
"وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أُحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يُبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها"4.
وسيكون نتيجة ذلك أيضاً ارتفاع الخوف من جميع الكائنات، ليحلّ الخوف من الحقّ المتعالي محلّه.
تدريب
2460قراءة
2017-01-09 22:23:19