هنا ينظر إلى كمالات الناس:
فينشدُّ ويميل إلى الناس أصحاب الكمال بنظره،
قد ينشدُّ إلى القوي، لأنه يرى الكمال في القوة.
وقد ينشدُّ إلى المشهور، لأنه يرى الكمال في الشهرة.
وقد ينشدُّ إلى الجميل، لأنه يرى الكمال في الجمال.
وقد ينشدُّ إلى العالِم، لأنه يرى الكمال في العِلم.
إنّه سرُّ ميل الإنسان وتعلُّقِه وحبِّه.
ولكن ليس كل ما يراه الإنسان كمالاً هو كمالاً حقيقيّاً، لذا حينما يصل إليه لا يشعر بالارتواء المتوقَّع، فالذي يظنّ أنّ المال يحقق كماله فإنه يسعى نحوه، إلا أنه حينما يصبح غنياً يشعر بفقر في داخله وميلٍ نحو كمالٍ آخر.
والذي يظنّ أنّ الجاه يحقّق كماله، يسعى نحوه، لكنه حينما يصبح وجيهاً، يبقى في ظمئه العاطفي. والذي يظنّ أنّ السلطة تحقِّق كماله، يسعى نحوها، لكنه حينما يصبح حاكماً يبقى في جوعه النفسي. لذا فإنّ السائر في طريق الكمال يتساءل: أين هو الكمال الذي فطرنا الله على حبِّه والميل إليه والسعي نحوه؟!
والجواب عن تساؤله هذا يحتاج إلى عودة إلى تلك الفطرة المغروسة لاستماع صوتها الصافي المتوجِّه إلى كمالٍ لا نقص فيه، يروي الظمآن، ويشبع الجوعان، ويجيب أولئك السائرين الحائرين بجوابٍ سطره سيد العارفين في عصرنا بقلمه المخاطب أولئك قائلاً: "يا أيُّها الهائمون في وادي الحيرة، والضائعون في صحاري الضلالات، بل أيتها الفراشات الهائمة حول شمعة جمال الجميل المطلق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب، والدائم الأزلي، عودوا قليلاً إلى كتاب الفطرة، وتصفّحوا كتاب ذاتكم، لتروا أنّ الفطرة الإلهية قد كتبت فيه بقلم القدرة (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)5.
الله هو الحبيب الأول
من هنا، فمن أراد أن يروي ظمأ حبه وجوع عشقه فإنه لن يجد ذلك إلّا في التوجه إلى الله تعالى. وإلى هذا المعنى يرنو الإمام زين العابدين في قوله المتوجه به إلى الله تعالى: "إلهي... ما أطيب طعم حبِّك، وما أعذب شرب قربك!"6. "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً؟!"7.
الله هو الميزان في الحبّ
بما أنّ الله تعالى هو الكمال المطلق الذي ينشده محبُّ الكمال الحقيقي، فإنَّ حبَّ غيره عزّ وجلّ ينبغي أن يُقاس على أساس مدى قربه منه سبحانه، فيكون الله تعالى هو الميزان في حبِّ الآخرين.
وهذا ما أرشد إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث عديدة منها:
"إنّ أوثق عرى الإسلام أن تحبَّ في الله، وتبغض في الله"8.
"أفضل الأعمال الحبُّ في الله، والبغض في الله"9.
"المودَّة في الله أقرب نسب"10.
"المودَّة في الله آكد من وشيج الرحم"11.
الأحبُّ من الناس أكملهم
بما أنّ مقياس حبِّ غير الله هو مدى قربه من الكمال المطلق، فينبغي أن يكون الأكمل بين الناس هو أحبّهم إلى قلب المؤمن. لذا ورد عن أكمل الخلق وسيدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"12.
وقد أكَّد القرآن الكريم على هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾13.
مودَّة القربى عليهم السلام
وبما أنّ الأكمل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل بيته الطاهرون عليهم السلام ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه، وتكون عترتي أحبَّ إليه من عترته"14،وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يتمُّ الإيمان إلا بمحبَّتنا أهل البيت"15.
هذا غيض من فيض الروايات الواردة في حبِّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلامعند جميع المسلمين حتى عُدَّ ذلك من ضروريات الدين. إلا أنَّ اللافت في موضوع حبّ أهل البيت عليهم السلام هو الآية القرآنية: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المودَّة فِي الْقُرْبَى﴾16، وذلك من ناحيتين:
الأولى: أنّ مودَّة القربى جعلها الله تعالى مقابل أجر جهد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يؤذَ نبي مثل ما أوُذي.
الثانية: أنَّ التعبير في الآية لم يكن بعنوان الحبّ، بل المودَّة التي تعني كما تقدّم: الحبّ الذي يظهر أثره في مقام العمل، فيكون حبًّا ناطقاً من خلال التعبير أو العمل مما يضفي الصدقيَّة في علاقة المؤمن في الله وأهل بيت رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
مودَّة المؤمن
أراد الله تعالى أن يتجلَّى الحبُّ في الله في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض من خلال العمل، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شُعَب الإيمان"17، فربط التنويه العظيم للمودَّة بالإيمان نابع من دور هذه المودَّة في تكامل الإنسان نحو الله تعالى، وهذا بخلاف مودَّة الشخص الذي لا ترتبط مودَّته بهذا التكامل، فإنَّ مودته لا تكون في محلّها الصحيح، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام:"لا تبذلنَّ ودَّك إذا لم تجد موضعاً"18.
مودَّة الزوجين
في إطار التكامل الإنساني، ولتحقيق سعادة الزوجين ركَّز القرآن الكريم على المودَّة بينهما في قوله تعالى:﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً...﴾19. لكنْ رُبَّ تساؤل يَرِدُ حول هذا التعبير القرآني الذي يفيد جعل المودَّة بين الزوجين، والمودَّة - كما مرَّ- هي الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل، والحبّ، كما تقدّم سابقاً ليس اختيارياً، وعليه:
أ- إن كان الجعل جعلاً تكوينيّاً قهريّاً من الله بحيث لا يمكن أن يتخلّف عن إرادته تعالى، فهذا الأمر يتنافى مع الواقع، لأنّ معناه أنَّ كل زوجين بينهما مودَّة فعلاً بالقهر والتكوين والجبر، مع أنّ حال العديد من الأزواج ليس كذلك، إذ في بعض الحالات الزوجية لا نلحظ ذلك الحب فضلاً عن المودَّة.
ب- وإن كان الجعل تشريعيّاً كجعل الصلاة والجهاد بحيث يكون اختياريّاً للإنسان يمكن له فعله، ويمكن عصيانه، فكيف يتلاءم هذا المعنى مع كون الحبِّ غير اختياري؟ والجواب أنَّه يمكن أن يكون الجعل في الآية جعلاً اختيارياً بأن يكون المراد بأنَّ الله تعالى يريد من الزوجين تشريعاً أنْ يحقِّقا المودَّة بينهما، وهذا لا يتنافى مع كون الحبّ غير اختياري، وذلك لما ذكرناه سابقاً من أنَّ الحبّ هو ميل القلب إلى أمرٍ يرى الإنسان فيه نوعاً من الكمال، وعليه فيمكن في كلٍّ من الزوجين حينما يظهر منه ما يراه الآخر كمالاً، أن ينجذب إليه فيحبّه، وبالتالي يمكن أن يودّه.
وبعبارة أخرى يمكن للإنسان أن يحقِّق ما يصنع الحبّ والمودَّة ليجذب الآخر إليه. وبهذا نجيب عن سؤال يتعلق بمدى ضرورة الحبّ قبل الزواج، فإنّ تحقيق الحبّ والمودَّة بعد الزواج أمر متاح لا سيَّما للعاقل الحكيم الملتفت إلى ما مرَّ، فما هي الأمور التي يمكن لها أن تحقِّق الحبّ والمودَّة بين الزوجين؟
في المقال الآتي...
________________________________________
1- سورة الروم، الآية 31.
2- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج16، ص166.
3- أنظر، الثعالبي، عبد الملك، فقه اللغة، وسر العربية، تحقيق حمد وطمَّاس، ط10، بيروت، دار المعرفة، 2004م، ص 213، 214.
4- الفيض الكاشاني، محمد بن مرتضى، تفسير الصافي، ط2، طهران، مكتبة الصدر، 1416هـ، ج1، ص 326.
5- الخميني، روح الله، منهجية الثورة الإسلامية، (لا، ط)، طهران، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، (لا، ت) ص 7.
6- الإمام زين العابدين، علي بن الحسين، الصحيفة السجادية، تحقيق السيد محمد باقر الموحد الأبطحي الأصفهاني، ط1، نمونه قم، مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر 1411 هـ، ص 418.
7- المصدر السابق، ص 413.
8- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، تحقيق دار الحديث، ط1، دار الحديث، ج1، ص514.
9- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، ص 252.
10- الآموي،عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، ترتيب عبد الحسن دهيني، ط1، بيروت، دار الهادي، 1413ه، ص 65.
11- المصدر السابق، والمراد من وشيج الرحم أي اشتباكُه، فالرحم الواشجة هي المشتبكة.
12- الريشهري، محمد، المجتبى في الكتاب والسنَّة،( ل،ط)، بيروت، دار الحديث، 2000م، ص 136.
13- سورة التوبة، الآية 24.
14- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج17، ص13.
15- المصدر السابق، ج36، ص 322.
16- سورة الشورى، الآية 23.
17- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص 125.
18- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، تحقيق دار الحديث، ج1، ص497.
19- سورة الروم، آية 21.
تدريب
2672قراءة
2019-03-13 15:38:50