القصص العاشورائيّة - متن مدرسة الأجيال
الحلقة الأولى: المواساة
تعالى صوت المذياع من جهة والتلفاز من أخرى، كثُر الكلام، الكل متحمس وقلق، هذا يردد: "اللهم انصرهم" وذاك يقول "اللهم سدّد خطاهم" والجدّة تتمتم "اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة" وتدمع عيناها..
كل هذا وساجد الصغير يجلس مراقباً والحماسة تملأ قلبه فها هي الأناشيد التي طالما أحب سماعها، تتردد في الأرجاء فقد حفظ منها الكثير ولعلّ أحبّها على قلبه وأكثرها ترداداً على شفتيه الصغيرتين هي "كلنا مقاومة، كلنا مقاومة".
وبدا الوقت دهراً في ساعة أم ساجد، التي كانت تروح وتجيء تفرك بيدها حيناً وتسترجع أخرى، لفتت هذه الحركات القلقة انتباه ساجد، فتقدم من أمه وسألها:
أمي.. ما الأمر؟! لماذا أنت قلقة؟ هل استشهد والدي؟ فقد قال لي قبل ذهابه: "ادعُ لي بالشهادة يا صغيري، فأنا أريدك أن تفخر بي غداً".
أمام هذه الكلمات توقّفت أم ساجد عن حركتها القلقة تلك، انحنت على ولدها، ضمته كما لم تفعل من قبل، مسحت على رأسه ثم أدمعت.. وضع ساجد رأسه على صدر أمه الحنون مستأنساً بنبضات قلبها التي تعكس القلق والترقب إلى جانب الحب والحنان..
قالت أم ساجد: "يا صغيري الحبيب أتريد أن تعرف متى ستفخر بوالدك؟ أتريد أن تعرف لماذا؟..
هزّ رأسه وكأنه يفضّل الصمّت على الكلام. وكأن ذاك الصمت هو المفرّ من كلام وأسئلةٍ يخشى من إجاباتها.
غمرت أم ساجد ولدها بقوة وقالت: "أنت تعرف الإمام الحسين وأهل بيته؟".
أومأ ساجد برأسه.
أكملت الأم قائلة: "إنّ والدك يسير على درب الإمام الحسين".
رفع ساجد رأسه وقال: "أمي هلّا أخبرتني قصة الإمام الحسين، فأنا أسمع مجالس العزاء لكني حتى الآن لا أعرف ما حصل حقاً وكيف انتصر الإمام الحسين رغم استشهاده!".
استبشرت الأم بسؤال ولدها، وكأنها نسيت سبب قلقها وقرّرت أن تنتقل بالزمن إلى تلك الأيام التي مازالت خالدة حتى الآن. قررت أن تُشغِل أفكارها بمصاب أبي عبد الله الحسين ومواساة السيدة زينب(عليها السلام). وقالت في نفسها: "إن أبا ساجد بعين الله تعالى، أسأله أن يعيده سالماً إلينا"، وأخفت صوت التلفاز وجلست بجانب ولدها لتقول:
"تلك أيامٌ رغم أننا لم نشهدها ولم نعش آلامها إلا أنها تفتّت القلوب وتستذرف الدموع. إنها أيامٌ أبكت أهل السماء كما أبكت أهل الأرض. إنها الأيام التي سلخت سبط الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وابن الزهراء البتول(عليها السلام) ونجل علي المرتضى الإمام الحسين من مدينة جده ليقف بوجه الطاغية الظالم الباغي يزيد".
ساجد: "أمي نعم أنا أعرفه إنّ أبي يقول: لعنة الله على يزيد وأتباعه".
الأم: "أجل يا حبيبي، فيزيد ذاك، كان يكره الإسلام والإيمان ويرفض طاعة الله ولذلك كان يكره الإمام الحسين وهو الذي يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد وطاعته ورفض الشيطان وأتباعه، ولأن يزيداً ذاك، كان الإنسان الشرير، الطامع بالمال والسلطة أراد أن يحكم الناس بالقوّة، وأراد أن يحصل على طاعتهم ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وهو يعلم تماماً أن النّاس يحبّون الإمام الحسين ويطيعون ما يقول ويطلب..
هذا الأمر سبّب ليزيد الكثير من الغيظ والحقد وقرر أن يجبر الإمام الحسين على الرضوخ إليه ومبايعته أميراً على المسلمين.
وقف ساجد في وسط الغرفة وقال غاضباً: طبعاً لن يقبل الإمام الحسين هذا أليس كذلك يا أمي.
أجابت الأم: نعم يا حبيبي طبعاً، الإمام الحسين لن يقبل، لذلك قرر الإمام الحسين عدم الرضوخ إلى ذاك الكافر وأرسل إليه يرفض طلبه.
لكن الشّرير يزيد أخذ يعذّب الناس في المدن الإسلامية وكان بين تلك المدن مدينة اسمها الكوفة يحكمها أحد عمال يزيد وكان يجبر الناس على طاعة يزيد الكافر.
وكان أولئك الناس يحبون الإمام الحسين فأرسلوا إليه الكثير من الرسائل يطلبون إليه أن يساعدهم على التخلّص من يزيد وجوره وظلمه.
ساجد: أمي.. ماذا فعل الإمام الحسين يا أمي؟... هل ذهب؟ هل ساعد أولئك الناس؟ ما الذي جرى أريد أن أعرف.
الأم: ها أنا أتكلم يا صغيري.. طبعاً لقد ذهب الإمام الحسين إلى الكوفة ولكن لم يذهب لوحده بل أخذ معه جميع أهل بيته إلا إبنته فاطمة.
ساجد: لما، ألم يكن يحبها.. لما لم يأخذها؟..
الأم: المرض يا عزيزي، المرض، إن فاطمة كانت عليلة مريضة ولا تقوى على السفر وتعبه، وقد خاف عليها الإمام الحسين المشقة، فقرر تركها في المدينة.
بكت فاطمة كثيراً عندما تهيأ والدها للرحيل، وخاصة أنها كانت متعلقة جداً بأخيها الصغير عبد الله، وكانت ترغب بشدة أن تتركه معها علّها تهتمّ به وترى من خلال وجهه وجه أبيها الحسين.
لكن ما أراد الله تعالى كان، فقد ودّع الجميع فاطمة العليلة الحزينة واتجهوا نحو الكوفة وقلوبهم معلقة بمدينة الرسولصلى الله عليه وآله لكن لا بدّ من الرحيل فقد عرف الإمام الحسين من ابن عمه مسلم بن عقيل الذي أرسله لمعرفة أخبار الناس في الكوفة، أنهّم يتحرقون شوقاً لرؤية الإمام ونصرته، وأنهم جاهزون للتضحية بأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الحق وإعادته إلى أصحابه. أخذت أم ساجد نفساً عميقاً، هزّت برأسها وقالت: ساجد أتعرف ما الذي يحصل مع الناس الذين يحبون المال أكثر من حبّهم لله تعالى..
ساجد: نعم يا أمي، إنّهم يلحقون المال، يتخلّون عن كل وعودهم وكلّ مبادئهم.
لكن هل هذا ما حصل مع أهل الكوفة يا أمي؟.. (هذا ما أجيبك عليه غداً).
الحلقة الثانية: مسلم بن عقيل التضحية
أم ساجد: عندما كان مسلم بن عقيل في الكوفة كان يزيد ومن معه يحاولون إعماء عيون الناس بالمال ويشترون ضمائرهم الواحد تلو الآخر ومسلم لا يستطيع شيئاً فقد انقلب الصديق عدواً والمناصر خصماً. وبات غير قادر على إخبار الإمام الحسين عن حال أهل الكوفة، عن غدرهم وتراجعهم عن رسائلهم، وانشغل مسلم يحاول حماية نفسه.
ساجد: ومسلم.. ما الذي حصل له، فأنا قلق عليه.
أم ساجد: نعم يا عزيزي معك حق، فمسلم ذلك الإنسان المخلص، عندما رأى الجمع تفرق من حوله وجند يزيد يلاحقونه في كل مكان حلّ عليه الليل وكان متعباً جداً ولم يكن يقوى على الاستمرار فهو عطش وتعب فجلس أمام بيت امرأة اسمها طوعة..
تلك المرأة المؤمنة التي ساعدت مسلماً، فقد طلب منها مسلم كوب ماء ليشرب فأحضرته له، وكان عليه أن يغادر مكانه بعد أن شرب إلا أنه لم يفعل، وهذا دفع طوعة للقول: "أيها الرجل أنا لا أسمح لك بالبقاء أمام منزلي".
ومسلم كما تعلم يا صغيري مؤمن يخاف الله ويحترم الناس، ولا يمكن له القيام بعمل فيه إزعاج للمؤمنين، فقال لطوعة: "يا أمة الله اتركيني أجلس قليلاً، فلا مكان ألجأ إليه، وإنشاء الله لك الأجر والمعروف على ذلك".
تعجّبت طوعة من كلامه وسألته: من أنت يا عبد الله؟
فأجاب أنا مسلم بن عقيل ابن عم الإمام الحسين..
عندما عرفت طوعة ذلك رحّبت به وطلبت إليه الدخول إلى منزلها حيث قضى ليله بالدعاء والصلاة.
ساجد: الحمد لله لقد استطاع مسلم النجاة بنفسه..
أم ساجد: لا تتسرع يا ساجد، إن الله تعالى كتب لمسلمٍ أن يكون أول شهيدٍ في مسيرة الإمام الحسين. لأنه وقبيل الفجر عاد ابن طوعة إلى المنزل وكان إنساناً غشّاشاً يحبّ المال ولا يهمّه الحق أو الصدق. لذلك وعند سماعه صلاة مسلم عرف بأمره وأسرع للوشاية به إلى ابن زياد مقابل حفنة من المال.
ولم تكد شمس الصباح تشرق حتى كان جنود يزيد يحيطون بيت طوعة وكانوا قد صنعوا فخاً لمسلم لأنهم يعرفون تماماً أنه مقاتل باسل لا يمكن الإيقاع به بسهولة.
ساجد: ماذا فعل مسلم.. ألم يحاول الهرب أو الإختباء؟
أم ساجد: لا، لأن الإنسان المسلم المؤمن لا يخشى مواجهة الموت، خاصة إن كان على حق. لذلك وعند سماع مسلم الجلبة والضجّة، حمل سيفه وعرف بوشاية ابن طوعة، خرج لمواجهة القوم بكل بسالةٍ إلى أن أوقعوه في الفخ، حيث بات سهلاً عليهم تكبيله بالقيود والأغلال وقادوه إلى اللعين ابن زياد والي يزيد على الكوفة.
هناك قرر ابن زياد قطع رأسه وقتله ليخيف بذلك الناس فلا يجرؤ أحد على التمرد على يزيد وحكمه، ولم يكن وجع مسلم حينها أو عذابه وألمه على نفسه بل كان يفكر بالإمام الحسين وبخيانة الناس له.. بكى مسلم وسلّم على الإمام الحسين وقُطع رأسه الشريف ورُميت جثته من أعلى القصر.
تنهّدت أم ساجد.. دمعت عيناها وقالت آه كم تكلفنا نصرت الحق من الدماء.
ولم يعرف ساجد ماذا يقول سوى أنّه أطرق برأسه وقال أكملي يا أمي أكملي.. أريد أن أعرف ماذا حصل مع الإمام الحسين
أم ساجد: ماذا سأخبرك.. إنّها قصة الظلم والجور قصة الدم القاني النّازف على أرض الكرب والبلاء.
انطلق الإمام الحسين متابعاً طريقه إلى الكوفة، غير عالم بمصير ابن عمه مسلم ابن عقيل، وفي طريقه تلك التقى به شخص اسمه الحرّ الرياحي. وكان معه عدد من الرجال أرادوا بأمر من اللعين يزيد منع الإمام الحسين من الوصول إلى الكوفة. وعند لقائه بالإمام سأله: "أمعنا أنت أم علينا؟".
أجابه الحر: بل عليك يا أبا عبد الله.
استرجع الإمام الحسين وبقي الحر مواكباً قافلة الرسالة إلى أن حان موعد صلاة الظهر، وقام الإمام الحسين وأصحابه للصلاة، فطلب الحر إليه الانضمام للصلاة، وصلى الجميع بإمامة الإمام وعاد كلّ فريق إلى مكانه. ولكن عندما أراد الإمام الحسين الانطلاق من جديد اعترضه الحر ومنعه من ذلك، فدار بينهما نقاش أخبر فيه الحر الإمام بأنه مكلف بمرافقة الإمام الحسين إلى الكوفة ليبايع يزيداً وإذا رفض الإمام فعليه أن يسلك به طريقاً لا توصله إلى الكوفة ولا تعيده إلى المدينة..
حاول الإمام أن يتابع سيره باتجاه الكوفة إلا أن الجنود منعوه من ذلك، فحاول المتابعة إلى أن وصل إلى كربلاء. فسأل أصحابه عن اسم ذلك المكان فقالوا اسمه الغاضرية. فسأل إن كان لها اسم ثانٍ، فأخبروه أن اسمها كربلاء. عندها تنهّد الإمام الحسين فحمد الله تعالى وشكره، فهذا هو المكان الذي ذكره النبي الأكرمصلى الله عليه وآله وأخبره أن فيها ستصبح النساء سبايا والخيام حرقى والأطفال يتامى.
والتفت الإمام إلى أهل بيته وأصحابه وطلب منهم أن يضعوا الرحال وينصبوا الخيام. وأرسل الإمام إلى يزيد أنّ مثله لا يبايع مثل يزيد وأنّ الخير لا يمكن أن يقلب إلى شر والحق أبداً لا يكون باطلاً.
الحلقة الثالثة: الأصحاب، الإخلاص
ساجد: أمي، مسلم ألم يعلم الإمام الحسين بمسلم وما حدث.
أم ساجد: عندما حاول الحر منعه عن إكمال مسيرته أخبره عن استشهاد مسلم وهذا ما دفع الإمام الحسين إلى النزول في كربلاء. وهناك نادى "حميدة" بنت مسلم والتي باتت يتيمة بعد شهادة والدها أجلسها الإمام وصار يمسح على رأسها وعيناه تدمعان، فقد تركت شهادة مسلم في نفسه عظيم الأثر وعميق الحزن، ولكن الإنسان المؤمن هو من يتغلب على حزنه.
عندما استقر الأمر بالإمام الحسين في كربلاء، وكان ذاك التاسع من شهر محرمٍ الحرام، نظر إلى أصحابه وأهل بيته وقد كانوا قلّة لا يتجاوزون السبعين ونظر إلى الجنود التي يحشدها والجيش الكبير الذي يعدّه يزيد لقتال تلك الثلة المؤمنة المطمئنة.
نعم لقد كانوا مطمئنين فكلٌ منشغل بعمل ما كالدعاء والصلاة والحديث والتلاوة وكأنهم ليسوا مهددين وكأن الخطر ليس داهماً ولم يكن ذلك إلا للإحساس بالقوة والشجاعة التي وضعها الباري في قلوبهم، وهذا ما دفع الإمام الحسين أن يجمع أصحابه جميعاً ويطلب إليهم الانصراف في ظلام الليل مؤكداً لهم معرفته لصدقهم وإخلاصهم ونيتهم الصافية واستعدادهم للموت بين يديه وقد وصفهم بقوله:
"..فإني لا أعلم أصحاباً أوفياء أكثر من أصحابي ولا أهل بيتٍ أصدق من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ، فأنا أسمح لكم بأن تذهبوا.. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.. وليأخذ كل واحدٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل، فهؤلاء القوم لا يريدون غيري..".
ساجد: لا تقولي أنهم تركوه ورحلوا.. إنهم شجعان وهو قائدهم، أليس كذلك..
أم ساجد: أحسنت وأصبت فقد رفض الجميع ترك الإمام الحسين، بل قالوا نحن لا نتركك يا إمامنا بل سنحارب معك حتى نستشهد بين يديك ولو قتلونا وأعيدت لنا الحياة ثانية وعادوا وقتلونا وفعلوا بنا ذلك مراراً وتكراراً ما تركناك أبداً.
وأصرّ الأصحاب على البقاء لنيل الشهادة بين يدي الإمام والحصول على تلك المرتبة الجليلة.
كان تأكيد أصحاب الإمام الحسين على البقاء معه، موجّهاً إلى أخته بطلة الشجاعة الصابرة السيدة زينب(عليها السلام)، وكأنهم يريدون أن يذودوا عن النساء والأطفال مع الإمام الحسين، فوجود أشخاص مؤمنين مخلصين بين يدي الإمام الحسين أمرٌ يباركه الله ــ ويجعل جهودهم أضعافاً مضاعفة..
ساجد: إذا كان هذا وضع الإمام الحسين وأصحابه فكيف كان وضع معسكر الكفر اليزيدي، يا أمي؟
أم ساجد: هناك في معسكر الكفر وبين الأشرار كان الأمر مختلفاً فالجميع يرقص ويلهو ويضحك ويلعب ويعتزون باستعدادهم لقتل الإمام الحسين وأهل بيته.
ساجد: أمي.. ألم يحاول الإمام التحدث إليهم وإقناعهم بخطأ عملهم وأن مصيرهم النّار إن قتلوا إبن بنت الرسولصلى الله عليه وآله؟
أم ساجد: بلى.. فقد أرسل الإمام أخاه أبا الفضل العباس، تعرفه وسمعت به.
ساجد: نعم أنه بطل عظيم وشجاع يمكنه هزيمة مئة شخص لوحده.
أم ساجد: هو ذاك البطل. أبو الفضل العباس، ذهب إلى الأعداء بأمر من أخيه الإمام الحسين ليعرف منهم طلبهم، فكان جوابهم أنهم يريدون تنفيذ أوامر يزيد وبالتالي قتل الإمام الحسين لأنه رفض البيعة. فما كان من الإمام الحسين إلا أن استمهلهم حتى الفجر.
وهكذا أخذ الوقت يمر حتى حان موعد آذان الفجر من العاشر من المحرم.
الحلقة الرابعة: الحر الرياحي، التوبة
ساجد: يوم العاشر أمي هو يوم استشهاد الإمام الحسين في ذلك اليوم بكت ملائكة السماء حزناً عليه.
أم ساجد: أجل ولكن لم يكن يوم استشهاد الإمام الحسين فقط بل وجميع أصحابه وأهل بيته.
أتذكر يا ساجد الحر الرياحي الذي تحدثنا عنه..
ساجد: نعم، لماذا؟
أم ساجد: هذا ما سأخبرك به.
عند طلوع فجر العاشر من المحرم، صلى الحسين بأصحابه وأهل بيته وتحضّر الجميع للحرب وباشروا بحفر خندق خلف الخيم وأشعلوا النّار فيها لحماية النساء والأطفال من الأشرار، وعند اقتراب بعض الأعداء حول الخيام شاهدوا النار، فقال أحدهم أبشروا بالنار فقد تعجلتموها في الدنيا، وحينما سمعه الإمام الحسين طلب من الله تعالى بأن يذيقه النار في الدنيا، فما كان منه إلا أن أوقعه حصانه في النار..
استبشر ساجد وقفز من حضن أمه قائلاً: نعم، هكذا يكون مصير الأشرار، أسأل الله تعالى أن يقعوا جميعاً في ذلك الخندق.. تبسمت أم ساجد وقالت: حماك الله يا ولدي، اسمع اسمع ما الذي جرى.
في ذلك اليوم أراد أحد المسلمين أن يوجه سهماً للأعداء، إلا أن الإمام الحسين رفض أن يكون البادئ بالقتال، وتوجه إلى الكافرين مع أخيه أبي الفضل العباس يذكّر الناس ويذكّر القوم بأصله ونسبه.
ومما قاله الإمام الحسين عليه السلام :
"الحمد لله رب العالمين، أما بعد. أيها الناس انسبوني وانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فهل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم؟ وابن عمه وابن أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟.. أليس هذا حاجز لكم عن سفك دمي وانتهاك حرمتي..".
فلم يكن الجواب من القوم الفاسدين سوى القول أننا نطيع يزيد وعليك مبايعته، ولكن هيهات لمثل بنت الرسولصلى الله عليه وآله أن يبايع مثل الفاسد الفاسق يزيد.
وحاول الإمام الحسين تكرار دعوته لهدايتهم فتحدث إلى ابن سعد يحذره من عاقبة فعلته، ولكن لا جدوى، فابن سعد حريص على حياته وماله ودنياه ناسياً آخرته وعواقب فعلته.
وكان لحديث الإمام الحسين تأثير على بعض من هم في جند يزيد ولعل أكثرهم تأثراً كان الحر الرياحي، حيث ظهر عليه الخوف وشحب لونه، فسأله صاحبه عن ذلك فقال: أنا لست خائفاً ولكنّي أرى نفسي أتعذّب في نار الله تعالى وأمامي اختيار الجنة ونصرة ابن بنت رسول اللهصلى الله عليه وآله.
ودار صراع عنيف بين قوّة الشيطان وقوة الإيمان في نفس الحر الرياحي، كانت نتيجتها أن انطلق بحصانه إلى معسكر الإمام الحسين ووصل إليه حانياً رأسه، تنهمر دموعه على خدّيه، وصل إليه عاجزاً عن الاعتذار عن اعتراضه للإمام وعند وقوفه أمام الإمام الحسين رفع يديه فوق رأسه، وقال: السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله.
فأجابه الإمام الحسين: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت؟".
قال الحر: أنا من منعك من إكمال طريقك.. أنا من أفزعتك وأرعبتك وعيالك وأطفالك. وها أنا قادم معتذر تائب وأنا فارس من رجالك فاقبل توبتي بأن أقاتلهم وأكون شهيداً بين يديك..
فأجابه الإمام الحسين: "أن اصنع ما بدا لك يرحمك الله".
ساجد: الحمد لله رب العالمين.. لقد أعاده الله إلى رشده، الحمد لله..
الأم: وهكذا يا صغيري توجّه الحرّ إلى الأعداء وكان قد طلب من الإمام الحسين السماح له بالكلام مع القوم قبل قتالهم، فوقف الحر بينهم يذكّرهم بالرسائل التي وجّهوها إلى الإمام الحسين، وكيف انقلبوا عليه ومنعوه الماء وحاصروا عياله وأطفاله.. فكان جواب القوم للحرّ برميه بالحجارة والسهام.. عندها إستأذن الإمام بالقتال وبارز الأعداء ببسالة وشجاعة حتى استشهد ووقع أرضاً وهو ينادي: السلام عليك يا أبا عبد الله، وكان هذا السلام أول سلام يطلقه شهيد في ساحة كربلاء.
عندما رأى الإمام الحسين الحر يخرّ صريعاً تقدم نحوه وجلس عنده ماسحاً التراب والدم عن وجهه وقال: "أنت حرّ كما سمّتك أمك، حرّ في الدنيا والآخرة".
الحلقة الخامسة: الأصحاب، الشهداء
ساجد: وقف ساجد وقال: الله أكبر.. الله أكبر.. أليس هذا ما نقوله عندما يسقط شهيدٌ يا أمي؟
الأم: الله أكبر على كل من طغى وتجبّر.
بعد شهادة الحر الرياحي بين يدي الإمام الحسين وعودة الإمام الحسين إلى الخيام سُمِعَت جلبة وصوت خيل، فإذا برجل يدعى حبيب بن مظاهر يترجل عن حصانه ويركع أمام الإمام الحسين على الأرض. فرفعه الإمام الحسين واحتضنه بحرارة وحب. وقد عبّر حبيب عن فرحه بوصوله قبل شهادة الإمام الحسين ليكون شهيداً بين يديه.
وهكذا سلّمه الإمام الحسين رايةً كان قد حفظها له. وكان مع حبيب عبدٌ اسمه جون، سمح له الإمام الحسين بالذهاب للنجاة بنفسه، فلم يكن من هذا العبد المؤمن إلا أن قال للإمام الحسين: والله إن حسبي للئيم ولوني لأسود لكن في قلبي المحبّة والخير وحب الله وحب الإمام، فتنفس عليّ بالجنّة فيطيب ريحي وحسبي ويبيض وجهي.
فدعا له الإمام الحسين بأن يبيّض الله تعالى وجهه وأن يطيب ريحه وأن يحشره مع الأبرار.
وهكذا برز جون إلى الأعداء وقاتل حتى استشهد، فما مرّ إنسانٌ من قربه إلا واشتم رائحة طيبة كرائحة المسك.
ساجد: بارك الله به وهنيئاً له.
أم ساجد: هنيئاً لكل الشهداء فقد صار أصحاب الإمام الحسين ينزلون إلى الميدان فيَقتلون الأعداء بشجاعة قلّ نظيرها مما دفع ابن سعدٍ قائد الأعداء إلى القول والأمر بالهجوم عليهم دفعةً واحدة، والا لن يبقى من الأعداء أحدٌ يخبر، فقوة الإيمان زادتهم قوّة، وجعلت كل مؤمن بعشرةٍ، وكلّهم يُقبل على الموت والشهادة بين يدي الإمام الحسين طمعاً بالجنة وفوزاً برضوان الله ورسوله الكريم..
هنا توقفت أم ساجد لتقول: أتعرف يا ساجد لقد كان بين أصحاب الإمام الحسين شابٌ اسمه وهب وقد كان نصرانياً. وهب ذاك اسلم على يدي الإمام الحسين.
ساجد: وهل استشهد وهب؟
أم ساجد: وأيّ شهادة!. لقد برز بين يدي الإمام الحسين وقد دفعته والدته إلى تلك الشهادة، برز وقاتل حتى قطعت يداه، فأقبلت زوجته تحمل عاموداً من حديد تقاتل إلى جانب زوجها دفاعاً عن حرم الرسولصلى الله عليه وآله. فطلب وهب منها الرجوع إلى الخيام وكذلك الإمام الحسين، فرجعت وقضى وهب شهيداً، ضحّى بدمه الشريف على مذبح الشرف والعزّة والكرامة.
إن الشرفاء الشجعان الذين استشهدوا بين يدي الإمام الحسين كثر وها أنا أذكر أبرزهم.
فبعد شهادة وهب برز إلى المشركين رجلٌ مؤمن اسمه مسلم بن عوسجة وكان رجلا قويا شجاعا، استطاع أن يقتل العشرات من الأعداء مما أربكهم ودفع بقائدهم لأمرهم بالهجوم عليه هجمة واحدة أردته قتيلاً، ينادي رافعاً صوته بالسلام على أبي عبد الله الحسين.
عندما سمع أبو عبد الله صوته تقدم إليه وبرفقته حبيب ابن مظاهر وكان مازال فيه رمق من حياة. نظر مسلم إلى حبيب وأوصاه بالدفاع عن الإمام الحسين وفاضت روحه الشريفة مباركةً بدعاء الإمام له بالرحمة والمغفرة.
تأثّر حبيبٌ كثيراً بما سمع، فبكى واستأذن الإمام الحسين بالبروز إلى القتال وودعه، وبكى فقد كان يرى أصحابه يقتلون الواحد تلو الآخر.
وحين حان موعد الصلاة اجتمع المؤمنون ليصلي بهم الإمام الحسين رغم الحرب والخطر، لأن هدف الإمام الحسين من هذا القتال هو الحفاظ على دين الله وخاصةً الحفاظ على الصلاة التي هي المنطلق للإيمان والإخلاص والتقرب إلى الله.
وقف المؤمنون للصلاة وكان بينهم رجلٌ اسمه سعيد بن عبد الله، كان يخاف على الإمام من سهم غدرٍ وهو يصلي، فوقف أمامه يحميه بروحه وجسده ويتلقى كل الضربات ليقيه السهام والحجارة التي كان يقذفها الأعداء ومازال على تلك الحال حتى وقع من كثرة الجراح التي أثخنت جسده المبارك، فبكى عليه الإمام الحسين مباركاً جهاده وبسالة دفاعه عن سبط الرسالة..
وهنا سمعت أم ساجد صوتاً يناديها.. يا أم ساجد، يا أم ساجد، أسرعي، أسرعي..
أسرع ساجد وأمه باتجاه الجدّة، فإذا هي مسمّرة أمام التلفاز الذي ينقل خبر انتهاء المواجهة مع العدو الصهيوني بسقوط شهيد للمقاومة، لم يعلن عن اسمه بعد..
تغيّرت ملامح وجهها، استغفرت الله وطلبت إليه أن يعيد أبا ساجد سالماً إليهما..
وهنا سألها ساجد: ما الأمر من استشهد ولما الخوف بادٍ عليك.
قالت: هذا ليس بالخوف، إنّه الحزن على الفراق.. ولكن دعنا لا نستبق الأمور ونعود لنكمل الحديث.. فإذا أراد الله أن يعيد والدك سالماً سيفعل..
الحلقة السادسة: علي الأكبر، لقاء الأحبة
أم ساجد: بعد شهادة الأصحاب جميعاً بقي الإمام الحسين وأهل بيته ولم يبقَ منهم سوى علي الأكبر والقاسم وأبي الفضل العباس وطفلٍ صغير اسمه عبد الله.
وكان هناك إمامنا السجاد زين العابدين ابن الإمام الحسين، إلا أنّه في ذلك اليوم كان مريضاً جداً لا يستفيق من قوة الحمّى وآلام المرض..وبات الإمام الحسين لا ناصر ولا معين..
عندها توجّه إلى معسكر الكفر يدعو عليهم ويطلب من الله أن يعذّبهم وينتقم منهم. بكى الإمام الحسين إلا أن بكاءه لم يكن نتيجة خوفٍ أو قلقٍ على حياته، بل كان حزناً على أصحابه الذين استبسلوا في الدفاع عنه.. وجلس الإمام الحسين أمام باب خيمته، الحزن والأسف يغمران محيّاه الشريف، نظر إلى النساء والأطفال الذين حُرموا الماء، وقام محاولاً التكلم مع الأشرار علّه يؤثر في نفوسهم ويتمكن من إقناعهم لكن هيهات، فقلوبهم غلّفت بالشر ونفوسهم قد أغويت بالمال، ولم يعد يملأ أعينهم إلا التراب وهيهات لمثل هؤلاء أن يؤثر فيهم الكلام..
ساجد: ألم يكن فيهم من رقَّ قلبه لحال الإمام الحسين؟!
ألم يكن فيهم من فتح الله قلبه على نور الهداية؟!
أم ساجد: بلى يا ولدي.. لكنّهم كانوا قلّة قليلة جداً، وما إن يعلنوا نصرتهم للإمام الحسين حتى يقتلهم الأشرار ويقضوا عليهم..
ساجد: وكيف انتهى الأمر؟
أم ساجد: بينما كان الإمام الحسين جالساً في مخيّمه والأطفال عطاشى، سُمع ضجيج وصراخ يتعالى خارجاً أمام المخيم، فالعدو يطلب الإمام الحسين للقتال.. عندها تقدّم علي الأكبر ابن الإمام الحسين، وكان علي الأكبر أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً بجده رسول الله صلى الله عليه وآله. كان حميد الأخلاق، شجاعاً، ذكياً وحكيماً.. تقدم من والده بكل إجلال واحترام، ترجّل عن حصانه ووقف أمام والده عيناه مطرقتان إلى الأرض، وكأنه ينتظر السّماح من قائده بالبروز للقتال. نظر إليه الإمام الحسين نظرةً مليئة بحب الأب وحرص القائد، وخوف الصديق، نظر إليه ليراه في ربيع عمره حيويّة الشباب تفرّ من عينيه ونور الإيمان يجلّل جبهته الشريفة، وتداخلت المشاعر في نفس الإمام الحسين، لكنه هو ذاك القائد العظيم الذي لا يسمح لمشاعره أن تتغلّب على رباطة جأشه.. نظر إلى ولده بإمعان، ثم احتضنه مقبِّلاً إياه، وقد انهمرت الدموع مبلّلة لحيته الشريفة، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
"اللهم كن أنت الشهيد عليهم، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه، اللهم امنع عنهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقاً ومزّقهم تمزيقاً. فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلوننا". ثم نادى: "يا ابن سعد، قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله".
ساجد: لقد حزن الإمام الحسين كثيراً على ولده ترى أهكذا حزن السيّد حسن نصر الله(حفظه الله) عند استشهاد ولده، السيد هادي؟!.. يا أمي.
أم ساجد: طبعاً يا حبيبي، فعاطفة الأب عاطفةٌ كبيرة جداً، فالأب يحب أبناءه حبّاً عظيماً، ألا ترى وتشعر كم يحبّك والدك؟
ساجد: بلى، أرجو من الله أن يحفظه لي ويحميه فأنا أحبه كثيراً..
أم ساجد: إنشاء الله.. ولكن أنت تعرف يا ساجد كم يحب والدك الإلتحاق بركب الشهداء، ليكون مع الإمام الحسين وعلي الأكبر في الجنة.. فعلي الأكبر، في اليوم العاشر، وبعد أن سمح له والده وقائده بالنزول إلى ساحة الميدان، فتك بالأشرار وقتل منهم جماعاتٍ كثيرة، حتى أصابتهم الدهشة وتغلغل الخوف والرعب في صفوفهم.. لكن في ذلك اليوم كان الحَر شديداً، فأصاب علي الأكبر بالعطش، حتى جفّ حلقه المبارك وأنهكه التعب، إلا أنّه استمر بالقتال.. وكانت أمه ليلى تراقب وجه الإمام الحسين الذي كان ينفرج عندما يكون علي الأكبر منتصراً، ويكفهرّ وجهه عندما يكون ولده في خطر.. وهكذا كانت دقات قلب ليلى تتسارع وتخف, إلى أن سألت الإمام الحسين بعدما تغيّر لونه: سيدي هل قتل ولدي؟
فقال لها الإمام الحسين: "ادخلي إلى خيمتك وادعي لولدك، فقد سمعت جدّي رسول الله يقول إن دعاء الأم بحق ولدها مستجاب".
دخلت ليلى إلى الخيمة وركعت على الأرض وصارت تدعو دعاءً حزيناً، وتطلب إلى الله أن يرجع لها ولدها علي..
ساجد: لا تكملي يا أمي، فأنا أعرف.. لقد استجاب الله دعاءها وأعاد إليها ابنها. أمي. هلاّ طلبت من جدتي أن تدعوا الله أن يعيد أبي سالماً..
أجهشت أم ساجد بالبكاء، حتى اختنق نفسها، وكان ساجد يهدئ من روعها، وطلب إليها بحق والده أن تكفكف دمعها وتكمل له القصة.. عندها هدأت أم ساجد: أكملت قائلة: لم يعد يا ولدي علي الأكبر قادراً على التحمل من شدة العطش، عاد إلى المخيّم مناديّاً العطش. العطش. يا أبي قد قتلني، والقتال أجهدني، فهل لديك شربة من الماء أضعها في فمي، حتى أتقوّى بها على عدوّي؟
فضمّ الإمام الحسين ولده إلى صدره، ووضع لسانه في فم ابنه علي فأحسّ علي الأكبر وكأن قطعة خشب قد وضعت في فمه وليس لسان والده، فمن شدة عطش الإمام الحسين جفّ لسانه وبات كقطعة الخشب.. فقال علي الأكبر: أبي.. إن لسانك يابس أكثر من لساني، وعطشك أشدّ من عطشي..
هدأ الإمام الحسين من حزن ولده وشجعه على الصبر، بقوله أنه بعد استشهاده سيسقيه جدّه الرسول من كأسه الأوفى، لن يظمأ بعدها أبداً..
وقَبل عودته إلى الميدان، دخل علي الأكبر إلى خيمة أمه ليلى وعمّته زينب وباقي النساء، فودّعهن وبكى الجميع بكاءً مرّاً، وعندما أراد توديع أمه ليلى غُشِيَ عليها، فاحتضنها وصار يقبّلها ويقول أمي أنا أبنك علي الأكبر، ردّي عليّ، هذا ودموعه تتدحرج على وجهها، مما ساعدها على فتح عينيها واستعادة وعيها..
ودّعت ليلى ولدها داعية له، مستبشرة بأنه سيجعلها تفخر عند سيدة نساء العالمين السيدة الزهراء(عليها السلام). رجع علي الأكبر إلى الميدان وحارب بقوة وبسالة وكان يقتل كل من يحيط به، إلى أن أصابه لعين بضربة في ظهره وآخر بالسيف على رأسه، فوقع أرضاً، وهو ينادي بصوتٍ جريح، السلام عليك يا أبا عبد الله.. السلام عليك يا أبتاه.. وحمله جواده إلى معسكر الأعداء الذين حملوا على ضربه من كل الجهات حتى قطّعوه إرباً إرباً..
وأسرع الإمام الحسين إليه، ففرق القوم عن ولده الحبيب علي الأكبر، وأحسّ أن روحه ستفارق جسده الشريف، وهو يرى فلذة كبده مقطعاً بهذا المشهد الأليم.. أخذ الإمام الحسين يجمع أشلاء ولده، وبينما هو كذلك جاءت السيدة زينب(عليها السلام) ورمت بنفسها على جسد علي الأكبر باكيةً، لكن الإمام الحسين طلب إليها العودة إلى المخيم كي لا يشمت الأعداء بهم..
وقبل أن يغمض علي الأكبر عينيه على الموت والشهادة، تبسم تارةً وحزن أخرى، فسأله الإمام الحسين عن ذلك، فأجاب: أضحك لأنني أرى جدي رسول الله يسقيني كأساً تروي عطشي، وأحزن لأنني أرى جدتي فاطمة الزهراء باكية وهي ترى ولدها الحسين على هذه الحال..
عانق الإمام الحسين ولده علياً الذي أغمض عينيه إلى الأبد، فحمله والده إلى الخيام ووضعه مع باقي الشهداء، حيث تجمّعت حوله النساء للبكاء والحزن على أيامٍ مضت كان فيها علي الأكبر بسمة المكان وروح شبابه..
الحلقة السابعة: القاسم، عريس الشهادة
ساجد: إن الشهيد علي الأكبر، ذكرني بالشهيد حمد ياسين حمد، الذي سقط شاباً لم يتجاوز العشرين من عمره، وكذا العديد من شهداء المقاومة الإسلامية.
أم ساجد: كم أنا فخورة بك يا ولدي، وكم أتمنى لك مستقبلاً أفخر به أمام علي الأكبر والإمام الحسين عليهما السلام، ثم أكملت القول:
أتعرف يا ساجد.. في كربلاء كان هناك طفلٌ في مثل عمرك، اسمه القاسم، هو ابن الإمام الحسن ويكون الإمام الحسين عمّه، وكان الإمام الحسين قد ربّى القاسم منذ استشهاد والده الإمام الحسن، وفي يوم عاشوراء عندما رأى القاسم عمّه على تلك الحال وحيداً فريداً لا ناصر ولا معين، أخذ يفكر في نصرته، فذهب إليه طالباً منه الإذن بالقتال، لكن الإمام الحسين لم يدعه يذهب..كرّر القاسم طلبه، وكرر الإمام الحسين رفضه.. فذهب القاسم إلى أمّه يخبرها بما جرى معه، فأحضرت أمه رسالةً هي وصية الإمام الحسن لولده القاسم، يطلب إليه فيها نصرة الإمام الحسين في يوم كربلاء عندما يصبح وحيداً فريداً لا ناصراً ولا معيناً.. استبشر القاسم بالوصيّة فحملها وأسرع بها إلى عمّه الذي بكى كثيراً بعدما قرأها، وكأن المكتوب لا مفرّ منه، لذلك أحضر الإمام الحسين لامة الحرب وسيف الإمام الحسن وألبسها للقاسم وأركبه حصاناً وكان الوداع صعباً مؤلماً، فلا أحد يحتمل فقد الحسن مرتين..
نزل القاسم للميدان فخوراً بدفاعه عن عمّه عاملاً بوصيّة والده، فتعجّب الأشرار لصغر سنّه وصاروا يسألون عنه.. عندها قال القاسم: "إن تنكروني فأنا ابن الحسن، سبط النبي المصطفى والمؤتمن" فذهلوا من حماسة وشجاعة هذا الشاب الصغير الذي قتل منهم الكثير ولم يتمكنوا من قتله، إلى أن انقطع شريط نعله، ولخبرته القليلة بالحرب، انحنى ليصلح الشريط، فعالجه القوم الكفرة بعامود حديد على رأسه، فانشق رأسه الشريف، ووقع على الأرض، وصرخ بصوت قطّع القلوب.. أدركني يا عمّاه..
تسارعت دقّات قلب ساجد وأدمعت عيناه وأجهش بالبكاء..
لكن أم ساجد أكملت قائلة: وأحسّ الإمام الحسين بما أصاب القاسم، فأسرع إلى الميدان لإنقاذ القاسم، لكن الموت كان أسرع، فحمل الإمام الحسين القاسم وعاد به إلى المخيم ليضعه بجانب ولده علي الأكبر، وجلس بينهما الإمام الحسين، ويا لعظمة هذا المشهد، فلم يبقَ أحد إلا وبكى، حتى الملائكة في السماء.. ونعى الإمام الحسين القاسم بقوله: "بُعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك، جدّك وأبوك، عزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك.."، وهكذا انضم القاسم إلى قافلة الشهداء، دفاعاً عن إمام الحق الإمام الحسين..
وبعد الكثير من البكاء وقف الإمام الحسين ينادي بصوت ملوّن بالحزن مشدود بالعزيمة والإرادة مسدد بالحق والإيمان، قائلاً: "هل من ناصر ينصرني، هل من معين يعينني، هل من مدافع يدافع عن حرم الرسالة". وتعالى الصوّت يا ساجد من قلبٍ قويّ شجاع، يلبي نداء الإمام الحسين ولكن هل حان دور القمر أن يخسف وتعمّ الظلمة الأرجاء.
الحلقة الثامنة: العباس، الإيثار
أم ساجد: أتعرف القمر يا ساجد؟.
ساجد: نعم، فهو جميل ولمّاع وينير الظلمة.
أم ساجد: أتعرف بماذا يشبهون جميل الطلعة، وسيم المحيّا.
ساجد: نعم.. يشبهونه بالقمر..
أم ساجد: كذلك كان أبو الفضل العباس، قمر بني هاشم، فالعباس أخ الإمام الحسين وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كان رجلاً قويّاً شجاعاً مقداماً.. يهابه الجميع ويحسب له ألف حساب..
إلى جانب هذا كله كان كريماً محبّاً يعطف على الفقراء والمساكين، وهذا ليس غريباً عليه، فهو ابن أمير المؤمنين وشقيق الإمام الحسين وفوق هذا وذاك فقد كان عظيم الفضل حتى سمّي أبا الفضل..
ومن يتحلى بمثل هذه الصفات لا يمكن أن تحمله دماؤه دون التوقف عن نصرة القائد والإمام والأخ وهو يطلب النصرة والمعونة.. لذلك تقدم العباس إلى الإمام الحسين طالباً الإذن بالنزول إلى ساحة الميدان.. فأجاب الإمام الحسين بالقول: "كيف أدعك تحارب، وأنت أخي وسند ظهري، أنت قائد عسكري، وحامل لوائي، إذا أنت ذهبت تفرّق عسكري، فأنت تحمي أهل بيتي، وأنت المسؤول عن زينب، فكيف أدعك تحارب؟"..
فقال العباس: سيدي لم يعد بقدرتي التحمل، وأنا أرى أفعال الأشرار تلك ولا أستطيع أن أراك وحيدا تطلب من يدافع عنك، وإن كنت لا تسمح لي بالقتال، فاسمح لي بإحضار الماء للأطفال العطاشى فهم يشرفون على الموت عطشاً.. هنا سكت الإمام الحسين وكان صمته ذاك جواب القبول، فأحضر العباس القربة وتوجّه نحو الماء، قاتلاً من كان يحول بينه وبين الماء واستطاع ملأ القربة والعودة بها إلى مخيم العطش القاتل، الذين تهافتوا على قطرات الماء التي لم تكن كافية لسد العطش..
ساجد: ولهذا سمي أبو الفضل العباس بساقي العطاشى؟!..
أم ساجد: نعم، وعند نفاذ الماء وعودة الأطفال للبكاء وسماع العباس لأخيه الإمام الحسين ينادي طالباً للنصرة، وكانت سُكينة ابنة الإمام الحسين وعزيزة أبي الفضل العباس، قد طلبت منه الماء، فعاد العبّاس يطلب العودة لطلب الماء، وحاول الإمام الحسين استبقاءه، لكن إلحاح أبي الفضل دفع الإمام الحسين للموافقة وعند توجّه العباس باتجاه الأشرار، تقدم الشمر اللعين يعرض على العباس الأمان مقابل تركه الإمام الحسين، وبالطبع رفض ترك أخيه وإمامه وحيداً بل استبسل بالقتال، واخترق الجميع إلى أن وصل إلى الماء، وكان يحمل الماء برقبته والسيف بيد والراية بالأخرى، فقد كان حامل راية الإمام الحسين..
وهناك.. على نهر العلقم، تجسّدت الأخوة ومعاني الإيثار في أبهى صورها.. عندما نزل العباس إلى الماء، كان العطش يأخذ منه مأخذاً عظيماً فلسانه قد تشقق من شدّة العطش، فاغترف جرعة من الماء رفعها حتى فمه، فأحس ببرودتها لكنّه تذكّر أخاه والأطفال فرمى الماء من يده وهو يحدِّث نفسه ويقول:
"يا نفس من بعد الحسين هوني، وبعده لا كنت أن تكوني، أتشربين بارد المعين (الماء) والحسين يشرب المنون، يا نفس ما هذا والله فعال ديني ولا فعال صادق اليقين".. ورمى العباس الماء من يده.. ملأ القربة ووقف حاملاً الراية كل هذا والإمام الحسين يراقب ما يجري.. في هذه الأثناء صرخ ابن سعد بجنوده أن اقتلوه وامنعوه من إيصال الماء إلى الحسين فلو شرب الحسين وأبو الفضل من هذا الماء لأفنياكم ولم يبقَ منكم أحد.. لكن هيهات أن يتمكن أحد من مواجهة هذا البطل الشجاع.. لذلك اختبأ أحدهم خلف شجرة وكمن له حتّى مرّ فضربه بالسيّف على يده اليمنى فقطعها فصار يحارب بالشمال، وهو يقول: "والله لو قطعتم يميني، فإنّي أحامي أبداً عن ديني، وعن إمامٍ صادق اليقين، نجل النبي الطاهر الأمين".. واستمر بجهاده بيده اليسرى، حتى أردى منهم الكثير، فأحاط به الأعداء من جميع الجهات فضربوا يده اليسرى فقطعوها، فصار قطيع الكفّين، لكن هذا لم يشعره بالعجز وصار حريصاً على أن يوصل القربة إلى النساء والأطفال، لكن القوم لم يتركوه، بل انهمرت عليه السهام والحجارة حتى أصاب سهم القربة فمزقها وسال ماؤها، عندها أصابت الحيرة العباس.. فعالجه سهمٌ أصاب عينه فمنعه من الرؤية الجيدة، فضربه لعين بعامودٍ من حديد على رأسه، فوقع العباس صريعاً على الأرض، وارتفع نداؤه.. أخي يا أبا عبد الله أدركني.. ووصل الحزن إلى ذروته في تلك اللحظة حيث أحسّ الإمام الحسين بأن ظهره انكسر فرفع صوته قائلاً: "الآن انكسر ظهري، الآن تفرّق شملي والآن شَمِتَ بي عدوّي"..
وعند اقترابه من العباس، ظنّه العباس أحد الأعداء طالباً منه بأن لا يقطع رأسه حتى يودّع أخاه الإمام الحسين.. ولم يكن يعرف أن كلماته تلك وقعت على قلب الإمام الحسين وقع السهام.. فجلس الإمام الحسين بقربه، مسح التراب والدم عن وجهه ودموعه تنهمر كأنها سيلٌ وكأن بكاء الدنيا لن يغسل حزنه على أخيه العباس، وحاول الإمام الحسين أن يضع رأس أخيه العباس في حضنه، فأنزل العباس، كرر الإمام الحسين الأمر وكرر العباس إنزال رأسه، فسأله الإمام الحسين عن ذلك، فقال: "أنت الآن تضع رأسي في حجرك، ولكن بعد قليل أين يكون رأسك؟".. وكانت اللحظات تلك مريرة مرارة الظلم والجور وتمنّى العباس على أخيه أن يتركه في مكانه، لأنه وعد زينب وسُكينة بإحضار الماء وهو لا يريد أن يخلف وعده، فإنه يشعر بالخجل.. وفاضت روح أبي الفضل العباس، مقدماً أسمى صور التضحية والعشق والإيثار على مسرح الشهادة..
الحلقة التاسعة: الطفل الرضيع
ساجد: يا إلهي… كم عانى أهل البيت عليهم السلام، اللهم إلعن من ظلم الحسين وأهل بيته… فقد كانوا يريدون الحق ورفع راية الإسلام، فقتلهم الأشرار الكفّار، الذين لا يراعون لله حرمة…
أم ساجد: كل هذا قليلٌ… عندما تعرف يا صغيري الذي حدث مع الطفل الرضيع عبد الله.
ساجد: ما الذي حدث معه يا أمي… فهو رضيع كما تقولين، ولا يستطيع القتال!.
أم ساجد: إنّ الشّر والباطل لا يميّز بين طفل وشاب وعجوز… لأنه في ذلك اليوم وبعدما ارتفع علي الأكبر والقاسم والعباس وجميع الأصحاب شهداء… لم يبقَ سوى الإمام الحسين.. فارتفعت أصوات القوم تطالب الإمام بالقتال.. عندها طلب الإمام الحسين من أخته السيدة زينب(عليها السلام) أن تحضر ابنه الرضيع عبد الله، الذي كان قد مرض وتعب من شدّة العطش وقلة الطعام، حمله الإمام الحسين نظر إليه بحب وحنان، ثم وضع عليه غطاء لحمايته من الشمس وتوجّه به إلى مخيّم الأعداء.. وقف أمامهم وقال:
"يا قوم قد قتلتم أصحابي وأهل بيتي ولم يبقَ عندي سوى هذا الطفل وهو يتلظّى عطشاً، ارحموه لصغر سنّه وليس عليه جناية ولا يدري ما الغاية، خذوه واسقوه شربة ماء، فإنه أشرف على الهلاك.".
وهنا اختلف الظالمون، فمنهم من وافق على أن يُسقى الطفل الماء ومنهم من رفض داعياً القوم إلى قتله لكي لا يبقى من عترة الرسول الأكرم أحد على وجه الأرض.. وعندما اشتد نزاع القوم، التفت ابن سعد إلى رجل اسمه حرملة، وكان ماهراً في الرماية، وقال له: اقطع نزاع القوم يا حرملة.. اقتل الطفل وانهِ الخلاف.. عندها وجّه حرملة سهمه باتجاه الطفل ورماه به ليذبحه من الوريد إلى الوريد..
ساجد: يا الله على الكفّار ما أظلمهم.. يا أمي هذا أمرٌ مؤلم، مؤلم جداً!..
أم ساجد: لقد أحزن هذا اليوم العاشورائي أهل الأرض وأهل السماء..
عندما أحسّ الطفل الرضيع بحرارة السهم، صرخ صرخة اهتز لها الكون، وفتت قلب والده الذي وضع يده تحت عنق ولده حتى امتلأت بالدماء ورماها إلى السماء ولم يسقط من دم عبد الله ذاك أيّة قطرة إلى الأرض.
وعاد الإمام الحسين إلى المخيم فاستقبلته السيدة زينب(عليها السلام) ورأت الطفل مذبوحاً من الوريد إلى الوريد. ثم حملته وتوجّهت به إلى أمّه الرباب التي وضعته على صدرها وضمّته وصارت تدندن له وكأنّه ما زال حيّاً.. مشهد وموقف لا يقوى إنسان على حمله والصّبر عليه إلا إذا كان كالإمام الحسين يستهين بكلِّ شيء إذا كان في سبيل الله تعالى..
واكتمل عدد الشهداء، ولم يبقَ سوى أبي عبد الله الذي التفت يميناً ويساراً، يبحث عن من يناصره ويعينه لكن دون جدوى فالكل صرعى والكل عاجز عن النصرة.. حاول الإمام زين العابدين الذي كان عليلاً في ذاك اليوم الوقوف لنصرة والده مستعيناً بعصا، حاملاً السيف بالأخرى محاولاً الدفاع عنه، لكن الإمام الحسين طلب إلى أخته السيدة زينب(عليها السلام) أن تعيده إلى الخيام قبل أن يراه الأعداء ويقتلوه، فلا يبقى أحد من ذريته الشريفة.. وهكذا فعلت..
واستعد الإمام الحسين للقتال، فلبس ثياباً عتيقة جعلها تحت ثيابه، لأنه كان يعرف أن الأشرار سيسرقوه ويسلبوه ثيابه.. وجال بنظره من حوله، يريد أن يأتيه أحد بحصانه، فلم يكن هناك سوى أخته الصابرة المحتسبة السيدة زينب(عليها السلام) أم المصائب، قدّمت له جواده وهي تقول: "ما أجلدني، وما أقسى قلبي، أيّ أختٍ تقدّم لأخيها جواد المنية!"..
نادى الإمام الحسين جميع أهل بيته للوداع وكانوا نساءً وأطفالاً ودّعهم بالبكاء والحنين، وأراد أن يودّع ابنته سُكينة، فإذا بها جالسة تبكي في زاوية المخيم فناداها وصار يمسح على رأسها فعرفت أن الساعة التي تغدو فيها يتيمة قد حانت، فعانقت والدها وبكيا بكاءً مريراً..
وركب الإمام الحسين جواده يريد القتال، فاستوقفته السيدة زينب، أنزلته عن جواده وقبلته في نحره وقبلته في صدره، ثم توجهت صوب المدينة قائلة: "يا أماه يا زهراء لقد استرجعت الوديعة".. ثم قالت للإمام الحسين: "لقد أوصتني أمّنا الزهراء، إذا رأيت أخاك الحسين وحيداً في كربلاء، فقبّليه في نحره لأنه موضع السيوف، وشمّيه في صدره لأنه موضع وطء الخيول".. توجه الإمام الحسين إلى القتال بعد أن سلم على أخته ووجه السلام إلى والدته الزهراء، وعند وصوله إلى ساحة الميدان خاطب القوم قائلاً: "يا قوم، على ما تقاتلونني؟ على سنة غيرتها أم على شريعة بدّلتها، لماذا تستحلون دمي وانتهاك حرمتي؟" فأجابه القوم: "انزل على حكم ابن زياد ما ترى إلا ما تحب"، فكان رد الإمام الحسين: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"..
عندها هجموا عليه هجمة واحدة وكان يقاتلهم وحيداً، يضربهم بسيفه ويطعنهم برمحه وكان القتال عبارة عن هجمات، كان الإمام الحسين يستريح بين الواحدة والأخرى..
واشتدت المواجهة بين الإمام الحسين والأعداء عندما أمروا بأن يرموه بالسهام ويقاتلوه قتال رجل واحد، ولكن الإمام الحسين استطاع تفريقهم إلى أن وصل إلى ضفاف نهر الفرات، عندها نزل يريد أن يشرب ولم يكد يحمل في يده غرفة ماء، حتى ناداه لعين، يا حسين أتتلذذ بالماء وخيام نسائك تحرق، فرمى الإمام الحسين الماء من يده وأسرع إلى المخيم فوجده سالماً، فعرف أنها كانت خدعة من الأعداء لمنعه من شرب الماء.. عاد الإمام الحسين إلى الأعداء محاولاً الوصول إلى الماء من جديد، فحال الأعداء بينه وبين الماء وتكاثروا عليه يرمونه بالسهام والنبال والرماح، وهو يزداد شجاعة وقوّة وعزيمة على التصدي والقتال إلى أن كثرت جراحه وسال الدم على وجهه، فرماه لعين بسهمٍ مسموم أصاب قلبه الشريف، وكان مسموماً بثلاث شعب، لم يستطع الإمام الحسين نزعه فنادى رافعاً رأسه إلى السماء: "الهي أنت تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره"، وحاول انتزاع السهم، فانحنى على سرج فرسه قائلاً: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله" واستخرج السهم من ظهره وجرت الدماء سيلاً من جسده الشريف فوقع على الأرض صريعاً وصار حصانه يدور من حوله، سقط الإمام الحسين فركض إليه طفل صغير اسمه عبد الله ابن الإمام الحسن وحاولت السيدة زينب(عليها السلام) أن تمنعه من البقاء إلا أنه قال: "والله لا أفارق عمّي الحسين".. وعندما جاء أحد الأعداء لضرب الإمام الحسين بالسيف رفع عبد الله يده محاولاً منعه فقطع له اللعين يده، فنادى الغلام عماه.. الذي احتضنه قائلاً: "صبراً صبراً يا عمي على ما نزل بك"، ثم رماه حرملة بسهم فذبحه على صدر عمه الإمام الحسين.. عندها توجه الإمام الحسين بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً: "اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنع عنهم بركات الأرض، اللهم إن متّعتهم إلى حين، ففرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاّ ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا"..
وأغمي على الإمام الحسين وحار الأعداء في أمره، هل عجز عن القيام، أم أنها خدعة يريدها بهم..
الحلقة العاشرة: مصرع الإمام الحسين عليه السلام
ساجد: أبعد كل ما فعلوا، يظنون أنه بقي به رمق من حياة..
أم ساجد: من كان الشر بدمه لا يثق بأحد، فقد أشار الشمر إلى القوم أن يهجموا على الخيام، ليتأكد إن كان الإمام الحسين حياً، فهو لن يرضى أن تهتك حرمه وهو مازال قادراً على القتال.. وهذا ما جرى، فقد هجم الأعداء على مخيم النساء فتعالى الصراخ والبكاء..
عندها صاح الإمام الحسين: "ويلكم يا آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، فكونوا أحراراً في الدنيا، إن كنتم عرباً، فأنا الذي أقاتلكم وتقاتلونني، والنساء ليس عليهن جناح، فلا تتعرضوا لحرمي ما دمت حيّاً".. فقال الشمر اللعين: "لك".. وعادوا إليه يضربونه حتى أثخن جسده بالجراح، ولم يعد فيه جزء لم يجرح، وجواده يدور حوله يلطخ ناصيته بدم الإمام، يحاول رد القوم عن فارسه.. وعاد إلى المخيم يصهل بصوتٍ كأنه العويل وكأنه أراد إيصال الرسالة إلى زينب، التي سرعان ما سمعتها وفهمتها فصرخت وقالت: "يا أخي، ويا سيدي، ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال دكّت على السهل ولا أراك تقتل".. وأقبلت إليه مخاطبة وتستحلفه قائلة: "أخي بحق جدنا رسول الله كلمني، وبحق أبينا علي كلمني، وبحق أمنا فاطمة الزهراء كلمني"، وهنا فتح الإمام الحسين عينيه الدامعتين، وقال: "لقد أشعلت النّار في قلبي وزوتني ألماً على ألمي، ارجعي يا أختاه إلى الخيمة واحفظي لي العيال والأطفال".. ثم أغمض عينيه.. فوضعت السيدة زينب يديها تحت جسده وصارت تدعو الله بإيمان وصبر وهي تقول: "اللهم تقبل منّا هذا القربان".. وكان كلما حاول لعين قطع رأس الإمام الحسين تراجع والرهبة تملأ قلبه، لأن نور الإيمان يسطع من وجهه إلى أن أمر ابن سعد وضع حدٍ لهذا الأمر، عندها تقدم الشمر اللعين، حاول إبعاد السيدة زينب(علبها السلام) عن أخيها، فلم يستطع فضربها بكعب السيف على رأسها فأغشي عليها، ثم نزل وتربع على صدر الإمام الحسين الذي أفاق من غشيته فوجد الشمر جاثياً على صدره، فقال له: "يا شمر أتعرف من أنا؟" فأجابه الشمر: نعم أعرفك، جدّك النبي محمد وأبوك المرتضى وأمك الزهراء وأخوك الحسن. فقال الإمام الحسين: "أوتقتلني؟".. فأجاب الشمر: نعم أقتلك ولا أبالي.. وحاول ذبح الإمام الحسين فلم يعمل السيف فقيل له، أقلبه على ظهره فهذا موضع قُبَل رسول الله.. عندها قلبه الشمر اللعين على وجهه وضربه بالسيف على عنقه اثنا عشر ضربة أدّت إلى قطع الرأس المبارك..
واحسيناه.. واسيداه..
ساجد: اللهم العنهم أجمعين، اللهم أذقهم العذاب الأليم، وأجهش ساجد بالبكاء، وكذلك أمه، بكيا لوقت طويل، حتى قرع باب المنزل..
ركض ساجد يريد فتح الباب، علّه يجد والده خلفه، فيخبره بقصة الإمام الحسين ويخبره عن عزمه على السير في درب الجهاد والمقاومة، علّه يكون كواحد من أولئك الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحق والإسلام وابن بنت الرسالة..
لكنه فوجئ بأحد الشباب، يقول له: السلام عليك يا ساجد، أين أمك؟
نادى ساجد أمه وأقبل معها..
طلبت الأخ المجاهد من أم ساجد أن تنادي الجدّة، وجلس الأربعة في غرفة الإستقبال وبادر الأخ بالحديث قائلاً: " بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ.." بينما هو يتحدث، تغيرت ملامح الوجوه وضاقت العيون وضاع الكلام، فقد زفّ أبو ساجد شهيداً على مذبح البطولة..
عندها وقف ساجد قائلاً: نعم.. هو كعلي الأكبر.. هو كالقاسم..وكل الشهداء، هو بطل الحق وبطل الجهاد.. الآن عرفت لما قال لي أريدك أن تفخر بي غداً.. يا عماه، خذني إليه لأبارك له هذه الشهادة.. خذني إليه لأقول له هنيئاً لك يا والدي وأعاهدك المسير على الطريق ذاته في سبيل نصرة أهل البيت، ونهجهم القويم، لذلك استشهد الإمام الحسين وأهل بيته ولذلك سأكون مجاهداً أكمل مسيرتك حتى ظهور الإمام المهدي(عج)، الذي سيأخذ بثارات الإمام الحسين ويحقق العدل العظيم..
قال ساجد تلك الكلمات التي عبّرت عن وعيه لأهداف الإمام الحسين وصواب مسيرته..
وساد صمت طويل بعدها صوت قراءة القرآن لتتوافد الجموع المهنئة بتلك الشهادة المشرّفة..
السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين
برامج
8898قراءة
2021-07-30 22:18:00