12 سنة من العطاء

 

جديد المواضيع

خيمة العقيدة >> الدرس العاشر: الجبر والتفويض

الدرس العاشر: الجبر والتفويض


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يذكر عقيدة الجبر ويبيِّن العوامل السياسيّة والنفسيّة والاجتماعيّة التي أدّت إلى تعزيزها.
2- يذكر عقيدة التفويض ويستدل على تنافيها مع العدل الإلهي.
3- يشرح النظريّة القرآنيّة حول عقيدتي الجبر والتفويض.

 

تمهيد
من المسائل التي دار الجدل حولها، واختلفت الآراء والمذاهب فيها بين إفراط وتفريط، وتفرّعت عن مبحث العدل الإلهي هي المسألة التي ترتبط بأفعال الإنسان، من حيث كونه مختارًا في أفعاله أو مجبرًا عليها ولا خيار للإنسان فيها، وهي المسألة المعروفة بـ "الجبر والتفويض" أو "الجبر والاختيار".

وبسبب ارتباط هذه المسألة بالعدل الإلهي، بُحثت بعد مبحث العدل في الكتب العقائديّة.

 

عقيدة الجبر والعدل الإلهي
يرى الجبريّون أنّ الإنسان في أعماله وأقواله وسلوكه ليس مختارًا، وأنّ حركات أعضائه أشبه بالحركات الجبريّة في أقسام جهاز من الأجهزة الآليّة.

هذه الفكرة تثير في الذهن هذا السؤال: ترى كيف تنسجم هذه الفكرة مع الاعتقاد بالعدل الإلهي؟

فلا يمكن القول بأنّ الله تعالى يجبر إنسانًا على القيام بعمل، ثمّ يعاقبه على ما فعل. ليس هذا من المنطق في شيء!

وبناءً على ذلك، إذا قبلنا بالمدرسة الجبريّة، لا يبقى أيّ معنى للقول بوجود "ثواب" و"عقاب" و"جنّة" و"نار"، كما لا يكون هناك مكان لمفاهيم مثل: صحيفة الأعمال، والسؤال، والحساب الإلهي، وما جاء في القرآن من ذمّ المسيئين والثناء على المحسنين، وذلك لأنّ رأي الجبريّين يقول:

"لا المحسن كان مختارًا عندما أحسن، ولا المسيء كان مختارًا عندما أساء".

إضافة إلى أنّنا عند أوّل اتصال لنا بالدين نواجه التكليف والمسؤوليّة. وهل يمكن أنْ نكلّف شخصًا بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤوليّة ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟

أيجوز أنْ نأمر شخصًا في أصابعه ارتعاش لا إراديّ بأنْ لا يفعل ذلك؟ أم هل يجوز أنْ نطلب من شخص يسقط من مكان شاهق أنْ يتوقّف عن السقوط ومع ذلك يعاقَب لأنّه لم يتوقّف عن الارتعاش أو السقوط؟

ولهذا وصف أمير المؤمنين علي عليه السلام قول الجبريين بقوله: "... تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وخصماء الرحمن، وحزب الشيطان"1.

 

العوامل التي عزَّزت فكرة الجبر
إذا كانت فكرة الجبر واضحة البطلان، ومخالفة للعدل الإلهي، فكيف نشأت هذه الفكرة وما هي العوامل التي عزَّزتها؟

في الحقيقة إنّ مسألة الجبر قد أُسيء استعمالها إساءة بالغة على امتداد التاريخ، واستطاعت عوامل ثانويّة كثيرة أنْ تقوي جانب الجبر وإنكار حريّة إرادة الإنسان، ومن تلك العوامل:


أ- العامل السياسي:
كثير من الحكَّام المتسلّطين، ولأجل استمرار حكمهم غير المشروع، كانوا يتعهّدون فكرة الجبريّة ويشيعونها، قائلين: إنّنا لا نملك حريّة الاختيار، وإنّ يد القدر وجبريّة التاريخ تمسك بمصائرنا، فإذا كان بعضٌ أميرًا، وبعض آخر أسيرًا، فذاك حكم القضاء والقدر والتاريخ.

ولا يخفى ما لهذا الاتجّاه في التفكير من تأثير في تخدير طبقات الشعب، وفي تأييد استمرار السياسات الاستعماريّة، بينما الحقيقة هي أنّ مصائرنا، عقلاً وشرعًا، في أيدينا، وأنّ القضاء والقدر بمعنى الجبر وسلب الإرادة لا وجود له، فالقضاء والقدر الإلهي قد تعيّن بحسب حركتنا وإرادتنا وإيماننا وسعينا.

 

ب- العامل النفسي:
هناك أشخاص ضعفاء وكسالى غالبًا ما يكون الإخفاق نصيبهم في الحياة، ولكنّهم لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة المرَّة، وهي أنّ كسلهم أو أخطاءهم هي السبب في إخفاقهم، لذلك، ولكي يُبرِّئوا أنفسهم، يتمسّكون بأذيال الجبريّة، ويضعون أوزارهم على عاتق مصيرهم الإجباري، لعلّهم بهذا يعثرون على وسيلة تمنحهم شيئًا من الهدوء الكاذب، فيعتذرون قائلين: ماذا نفعل؟ لقد حيك بساط حظّنا منذ اليوم الأوّل باللون الأسود، وليس بمقدورنا أن نحيل سواده بياضًا.

 

ج- العامل الاجتماعي:
يحبّ بعض الناس أنْ يكونوا أحرارًا في التمتّع، وإشباع أهوائهم، وارتكاب ما تشاء لهم رغباتهم الحيوانيّة أنْ يرتكبوا من الجرائم والآثام، وفي الوقت نفسه يقنعون أنفسهم بأنّهم ليسوا مذنبين، ويخدعون المجتمع بأنّهم أبرياء. وهنا يلجأون إلى عقيدة الجبريّة، فيبرّرون جرائمهم بأنّهم في أعمالهم ليسوا مخيَّرين!

ولكنّنا، بالطبع، نعلم أنّ كلّ هذا كذب محض، بل إنّ الذين يتذرّعون بهذا العذر يؤمنون بأنّه واهٍ ولا أساس له، إلَّا أنّ انغماسهم في اللذائذ الزائلة لا يسمح لهم بإعلان هذه الحقيقة.

 

عقيدة التفويض
بإزاء الاعتقاد بالجبر، الذي يقع في جانب الإفراط، هنالك اعتقاد آخر باسم التفويض، ويقع في جانب التفريط.

يرى الذين يعتقدون بالتفويض أنّ الله قد خلقنا وترك كلّ شيء بأيدينا، ولا دخل له في أعمالنا وأفعالنا، وبناءً على ذلك تكون لنا الحريّة كاملة والاستقلال التامّ فيما نفعل بلا منازع!

ولا شكّ في أنّ هذا لا يتّفق ومبدأ التوحيد، إذ إنّ التوحيد قد علَّمنا أن كلّ شيء ملك لله، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه، بما في ذلك أعمالنا التي نقوم بها مخيَّرين وبملء حريّة إرادتنا، وإلَّا فذلك شرك.

وبعبارة أوضح: ليس بالإمكان القول بوجود إلهين، أحدهما هو الإله الكبير، خالق الكون، والآخر الإله الصغير، أيّ الإنسان الذي يعمل مستقلاً وبكلّ حريّة بحيث إنّ الله الكبير لا يستطيع أنْ يتدخل في أعماله!

هذا، بالطبع، شرك وثنائيّة في العبادة، أو أنّه تعدّد في المعبود، فعلينا إذًا، أنْ نعتبر الإنسان صاحب اختيار فيما يفعل لكي لا يتنافى مع العدل، وفي الوقت نفسه نؤمن بأنّ الله حاكم عليه وعلى أعماله لكي لا يتنافى مع التوحيد.

إذًا، فعقيدة الجبر تتنافى مع العدل الإلهي، لأنّها تؤدّي إلى نسبة الظلم لله تعالى، وعقيدة التفويض تتنافى مع التوحيد.

 

المدرسة الوسط: لا جبر ولا تفويض
إنّ العقيدة الصحيحة لا بدّ من أنْ تنسجم مع الإيمان بعدالة الله تعالى، والإيمان بتوحيده وشمول حكمه عالم الوجود كلّه، وهذه العقيدة هي التي بيَّنها أهل بيت النبوّة عليهم السلام بعنوان "الأمر بين الأمرين"، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض إنّما أمر بين أمرين"2.

ولكي نفهم هذه العقيدة نضرب المثال التالي:
افرضْ أنك تقود قطارًا كهربائيًا متّصلاً من خلال سلك كهربائي بمحطة تمدّه بالكهرباء وباستمرار، بحيث لو انقطع التيار لحظة واحدة لتوقّف القطار فورًا.

بديهي أنّك قادر على أنْ تتوقّف أثناء الطريق حيثما تشاء، ولك أنْ تزيد من سرعة القطار أو أنْ تُنقص منها. ولكن وعلى الرغم من حريّتك هذه، فإنّ الشخص القائم على إدارة محطّة توليد الكهرباء قادر في أيّة لحظة أن يوقف حركتك، وذلك لأنّ قدرتك كلّها تعتمد على تلك الطاقة الكهربائيّة التي يتحكّم فيها شخص غيرك.

إذا دقّقنا النظر في هذا المثال، نجد أنّه على الرغم من حريّة سائق القطار في الحركة والسكون، إلَّا أنّه في نفس الوقت يقع في قبضة شخص آخر، وأنّ هذين الأمرين لا يتعارضان.

نعم لقد وهبنا الله القدرة والقوّة، ومنحنا العقل والذكاء، وهي طاقات لا ينقطع وصولها إلينا من الله تعالى، ولو توقّف فيض لطف الله عنّا لحظة واحدة وانفصمت رابطتنا به، لقُضيَ علينا قضاءً تامًّا.

إنّنا إذا كنّا قادرين على إنجاز عمل، فقدرتنا هي التي يهبها الله تعالى لنا، وما زالت تصل إلينا باستمرار غير منقطع، بل إنّ حريّة إرادتنا أيضًا من عنده، أيّ أنّه هو الذي أرادنا أنْ نكون أحرارًا في إرادتنا، لكي نواصل مسيرتنا نحو التكامل بهذه الهبات الإلهيّة.

بناءً على ذلك، فإنّنا في الوقت الذي نملك فيه حريّة إرادتنا واختيارنا، نظلّ تحت سيطرة القدرة الإلهيّة، ولا يمكن أنْ نخرج من نطاق حكمه، وإنّنا في لحظة القدرة والقوّة نكون مرتبطين به تعالى، ولا يمكن أنْ نكون شيئًا بدونه، هذا هو معنى "الأمر بين الأمرين". إذ إنّنا بهذا لا نكون قد وضعنا أحدًا على قدم المساواة مع الله تعالى ليكون شريكًا له، ولا نكون قد اعتبرنا عباد الله مجبرين في أعمالهم لنقول إنّهم مظلومون، فتأمّل!

لقد تعلّمنا هذا الدرس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فعندما كان الناس يسألونهم عمّا إذا كان هناك سبيل بين "الجبر والتفويض" كانوا يقولون: نعم، أرحب ممّا بين السماء والأرض.

 

القرآن ومسألة الجبر والتفويض
يؤكّد القرآن المجيد في هذه المسألة على حريّة إرادة الإنسان بجلاء ووضوح في المئات من الآيات التي تصرّح بحريّة إرادة الإنسان.

 أـ جميع الآيات التي تتناول الأوامر والنواهي والفرائض، تدلّ على حريّة إرادة الإنسان في اختيار سبيله، إذ لو كان الإنسان مجبرًا في أعماله لما كان ثمّة معنى في الأمر والنهي.

 ب ـ جميع الآيات التي تذمّ المسيئين وتمدح الصالحين دليل على حريّة الإرادة، وإلَّا فلا معنى في الذمّ والمدح إذا كان الإنسان مجبرًا.

 ج ـ جميع الآيات التي تتحدّث عن الحساب يوم القيامة، ومحاكمة الناس في تلك المحكمة، ثمّ الحكم بالعقاب أو بالثواب، أيّ النار والجنّة، إنّ هي إلَّا دليل على حريّة الإنسان في ما يعمل، لأنّه بالفرض والإجبار لا يكون هناك معنى للمحاسبة والمحاكمة، ويكون إنزال العقاب بالمسيئين ظلمًا محضًا.

  د- جميع الآيات التي تدور حول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾3.

﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾4.

تدلّ دلالة واضحة على حريّة إرادة الإنسان.

 هـ ـ ثمة آيات مثل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾5.

واضحة الدلالة على هذا الأمر.

إلَّا أنّ هناك آيات في القرآن المجيد تُعتبر دليلاً على "الأمر بين الأمرين"، غير أنّ بعض الجهلاء يخطئون فهمها فيرونها دليلاً على "الجبر"، منها: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾6.

من الواضح أنّ هذه الآية وأمثالها لا تعني تجريد الإنسان من حريّة الاختيار، بل تريد أنْ تؤكّد للإنسان أنّه في الوقت الذي يكون فيه تامّ الحريّة والاختيار، لا يخرج عن أمر الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 155.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص160.
3- سورة المدثر، الآية 38.
4- سورة الطور، الآية 21.
5- سورة الإنسان، الآية 3.
6- سورة الإنسان، الآية 30.
 
 

برامج
1731قراءة
2021-04-11 11:27:57

تعليقات الزوار


إعلانات

 

 

12 سنة من العطاء

إستبيان

تواصل معنا